قصة كليوباترا بين التاريخ والأدب!

تعتبر كليوباترا من الشخصيات التاريخية التي احتلت مكانة مهمة في الأدب حيث كتب عنها شكسبير وأحمد شوقي.. لكن هذه الشخصية توضح المسافة بين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي.

فالتاريخ يقدم لنا صورة سلبية لهذه المرأة التي تميزت بالجمال والفتنة، واستغلتهما لجذب الرجال، ودفعهم لتحقيق أهدافها.

بنت الزمار!!

وكليوباترا التي احتفى بها التاريخ والأدب هي كليوباترا السابعة، وهذا يعني أن هناك ست نساء حكمن مصر في عهد دولة البطالمة حملن الاسم نفسه. لكنها كانت آخر ملوك الدولة البطلمية التي حكمت مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر، وهي ابنة بطليموس الثاني عشر الملقب بالزمار، الذي أوصي بأن تتقاسم عرش مصر مع أخيها الأصغر الذي قام القيصر بتزويجها له ثم اتخذها عشيقة.

ويوضح التاريخ أنها اختلفت مع شقيقها بطليموس الثالث عشر، وهو زوجها في الوقت نفسه، فهربت إلى سوريا، واستنجدت بقيصر روما الذي أرسل أنطونيو لنجدتها فوقع في غرامها.

لكن القائد الروماني أوكتافيوس غضب لذلك، وحذر أنطونيو من حبها، بعد أن انتشرت قصة الحب تلك في روما لأن روما تعرف أنها عشيقة يوليوس قيصر، وأنها أنجبت منه ولدا اسمه سيزرون.

لكن أنطونيو لم يستجب للتحذير، فأعلن أوكتافيوس عليه الحرب وتمكن من هزيمته في موقعة أوكتيوم، فقرر أنطونيو الانتحار، أما كليوباترا فقد أسرها أوكتافيوس، وقرر أن يذلها ويهينها بعرضها أمام الجماهير في شوارع روما.. لكنها قررت الانتحار.

هذه هي الحقيقة التاريخية.. لكن كيف صور الأدب كليوباترا؟ وكيف ابتعد هذا التصوير عن التاريخ؟

تصوير شكسبير

ركز شكسبير في مسرحيته على قصة حب كليوباترا وأنطونيو الذي أصبح مأفونا تلهو به عاهرة.

فعندما تسأله كليوباترا في المشهد الأول: قل لي كم تحبني؟!

يجيبها: ما أفقر الحب الذي يقاس ويحصى!

فتقول كليوباترا: دعني أرسم الحدود لحبي.

فيرد عليها: إذن فابحثي عن سماء وراء هذه السماء، وعن أرض غير هذه الأرض!

ومن أجل كليوباترا يتمنى أنطونيو أن تذوب روما في نهر التيبر، وأن يتهافت صرح الإمبراطورية الشامخ.

لكن عندما يعود أنطونيو إلى روما يقرر القيصر أن يزوجه أخته أوكتافيا، وعندما تعلم كليوباترا بذلك تقول: ألا فلتبتلع مصر أيها النيل.. وليتحول أهلها الودعاء إلى أفاع سامة.

الحب وغياب الرشد!!

هكذا يصورها شكسبير امرأة ضعيفة حاقدة على وطنها وشعبها يفتك الغضب بعقلها، فتطلب من الجميع البكاء من أجلها.

تتصاعد أحداث المسرحية، فيعود أنطونيو إلى مصر، ويجمع الجيوش لحرب أوكتافيوس، وتلتقي الجيوش في أوكتيوم فينهزم أنطونيو وكليوباترا.

في الفصل الثالث من المسرحية يتضح أن كليوباترا قد فرت من المعركة، فتبعها أنطونيو لأن الحب أفقده رشده لكنه شعر بالعار لأن العاشق فيه انتصر على القائد، لذلك فإنه لم يخسر المعركة وحدها، لكنه خسر شرفه.

الخيانة سبب الهزائم

عندما تزداد مأساة أنطونيو وكليوباترا تصل رسالة من قيصر يعرض فيها التخلي عن أنطونيو، وأن تتخذ منه مرفأ، فتقبل كليوباترا قائلة: إنها على استعداد لتضع تاجها عند قدميه.

عندما يعرف أنطونيو ذلك يتهمها بالتقلب في الرذيلة والقذارة والفجور، لكنه يسألها فجأة: هل فتر حبي في قلبك؟!

فتجيب: يوم يفتر حبك في قلبي فلترجمني السماء بالبرد المسموم.

هذه الكلمات تثير الشجاعة في نفس أنطونيو فيقول: إن قيصر يربض الآن في الإسكندرية، حيث أنا ماض إليه أقاتله.

لكن أنطونيو ينهزم مرة أخرى فيوجه غضبه إلى كليوباترا ويتهمها بأنها باعته للقيصر.

يتضح من ذلك أن شكسبير بنى أحداث المسرحية على خيانة كليوباترا بينما حرص على تصوير شجاعة أنطونيو، وبيان أن سبب هزيمته هو أن الحب أفقده عقله.

بذلك رسم شكسبير صورة سلبية لكليوباترا، ففي مشهد النهاية تقول كليوباترا: ما أنا إلا امرأة يحكمها الحب البائس الذي يحكم أضعف بنت تحلب الأبقار، وتؤدي أخس الواجبات.

ويرسل لها قيصر من يخبرها بأنه سيجلب لها كل ما تطلبه، وعندما يأتي قيصر تركع أمامه، لكنها تعلم أن قيصر سيعرضها في موكب النصر في روما أمام شعبه، فتأمر بإحضار ثعبان ليلدغها فتموت.

بذلك حاول شكسبير أن يحول التاريخ إلى دراما حيث حافظ على معظم الوقائع التاريخية، لكن كان هدفه الرئيس تصوير قصة الحب، وإثارة مشاعر الجمهور للتعاطف مع عاشقين.

شوقي يقدم صورة إيجابية

أما أحمد شوقي فقدم صياغة شعرية مسرحية لقصة كليوباترا أهداها إلى الأمير فاروق ولي عهد المملكة المصرية في ذلك الوقت.. لماذا؟!!

قرأت هذه المسرحية عندما كنت طالبا بكلية الإعلام، ولم أستطع الإجابة عن سؤال مهم: لماذا حرص أحمد شوقي على تمجيد شخصية كليوباترا، وتقديم صورة إيجابية لها؟

تبدأ المسرحية في غرفة المكتبة حيث نسمع الجمهور يتغنى بانتصار كليوباترا وأنطونيو في أكتيوم، وأن الإسكندرية أصبح لها عرش البحار!!.. فقد تعرض الشعب للخديعة، فهو -كما تقول كليوباترا- كالببغاء عقله في أذنيه، وهو شعب بريء يصرفه المضلل كيف يشاء!!

كانت كليوباترا تعرف حقيقة الهزيمة لذلك تدين إذاعة أخبار النصر الكاذبة فتقول:

وغدا يعلم الحقيقة قومي * ليس شيء على الشعوب بسرّ

وربما يكون ذلك أهم المشاهد في المسرحية، فالشعوب تتعرض لتزييف وعيها، حتى تفاجأ بالحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها طويلا.

تكتشف كليوباترا أن خادمتها شرميون قامت بحملة تضليل للشعب تصور الهزيمة نصرا.

ومع اعتراف كليوباترا بالخيانة والغدر، فإن أحمد شوقي ظل حريصا على تمجيدها لأنها تفعل ذلك باعتبارها -كما يقول- بنت مصر وملكتها.

تقول كليوباترا:

فنسيت الهوى ونصرة أنطنـ*ــيوس حتى غدرته شر غدر

علم الله قد خذلت حبيبي * وأبا صبيتي وعوني وذخري

والذي ضيع العروش وضحى * في سبيلي بألف قطر وقطر

موقف يعجب العلا كنت فيه * بنت مصر وكنت ملكة مصر

هذا يوضح أن أحمد شوقي بدأ يتأثر بالاتجاه الذي ساد عقب 1914، والذي تزعمه أحمد لطفي السيد لتحديد هوية مصر بأنها قطرية فرعونية.. لذلك تم تمجيد الرموز الفرعونية.

وهذا موقف لا يليق بشوقي ويتناقض مع الكثير من قصائده التي توضح اتجاهه الإسلامي.

إنني أقول ذلك بالرغم من حبي لشوقي، فقد حفظت في شبابي الكثير من قصائده التي شكلت جزءا مهما من ثقافتي.

مشهد الانتحار

حرص أحمد شوقي على تصوير كليوباترا بأنها ملكة مثقفة تحرص على اقتناء الكتب التي تعتبرها كالجواهر والنضار، وأنها تقضي يومها في المكتبة، ومن الواضح أن ذلك من بنات أفكار شوقي.

وقد ركز شوقي على مشهد انتحار كليوباترا بعد الهزيمة حيث تقول:

أبي لا العزل خفت ولا المنايا * ولكن أن يسيروا بي سبيا

أيوطأ بالمناسم تاج مصر * وثمة شعرة في مفرقيا

في مشهد آخر تبرر كليوباترا قرارها بالانتحار:

يريد ليعرضني في غد * على شعب روما كأني سلب

ويفضح مصر وسلطانها * وتاج العصور وعرش الحقب

ويتشابه مشهد الانتحار عند شكسبير وأحمد شوقي، حيث يأتي غلام يحمل سلة التين وتحته الثعبان.

ويحاول شوقي أن يثير تعاطف الجمهور معها، وهي تودع أطفالها، وتخاف عليهم من اليتم، حيث تقول كليوباترا:

أموت كما حييت لعرش مصر * وأبذل دونه عرش الجمال

حياة الذل تدفــع بالمنايا * تعالي حية الوادي تعالي

كما تقول أنوبيس على جثة كليوباترا:

سيقول بعدك كل جيل منصف * ذهبت ولكن في سبيل التاج

قد يكون ذلك صحيحا أنها ذهبت في سبيل التاج الذي استخدمت كل الوسائل للمحافظة عليه، لكنه تاجها الشخصي، وليس مصر التي احتلها الرومان لتدخل في مرحلة احتلال جديدة طويلة، ويذوق شعبها الهوان والقهر والذل على أيدي الرومان.

ربما يكون أجمل المشاهد في مسرحية شوقي مشهد أنوبيس وهي تقول للرومان:

قسما ما فتحتم مصر لكن * قد فتحتم بها لرومة قبرا

ولقد عاش المصريون أكثر من أربعة قرون تحت الاحتلال الروماني حتى حررهم جيش الإسلام العظيم بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه.

المصدر : الجزيرة مباشر