مجانية التعليم.. المغضوب عليها

عبير صبري

لا أجد منطقًا سائغًا لهؤلاء الذين يعيشون في رغد من العيش (زادهم الله)، ويسكنون أبراجًا عاجية ومدنًا مغلقة عليهم، تعزلهم عن الناس.. ثم يطلّون من شاشات الفضائيات، صارخين بكلمات فاقدة للموضوعية والرُّشد، داعين إلى انتزاع مكاسب ضئيلة بأيادي الكثرة من المواطنين الذين يعانون غلاء مستعرًا، وتدهورًا لمستوى معيشتهم في ظل ظروف اقتصادية ليست جيدة.

أمُّ المشكلات.. وقضية محسومة منذ قرون

هؤلاء المعزولون عن الواقع جهلًا أو تجاهلًا، يشنون غارات شرسة متكررة ومتجددة، ضد “مجانية التعليم” في المدارس والجامعات الحكومية المصرية، بزعم أنها “أمُّ المشكلات”، والسبب الفاعل لتدهور التعليم وتدني كفاءة مخرجاته، بما يكشف عن جهل فاضح بأهمية “شيوع التعليم”، ومردود هذا الشيوع وعوائده، باعتباره أفضل أنواع الاستثمار. إذ يمثل “التعليم الجيد” أهم الأسس لتنمية أي مجتمع وأفراده إنسانيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، مثلما هو الركيزة الأولى لتطور الدول وتقدُّمها، فهذه القضية محسومة منذ قرون طويلة، مصريًّا وعالميًّا. لذا، فالكثير من دول العالم شرقًا وغربًا، توفر “التعليم المجاني” بمراحله كافة لمواطنيها، وتظل في سباق دائم لتطوير أنظمتها التعليمية، ضمانًا لجودته، بغية حماية كيانها ومستقبلها من التراجع والتخلف.

فهذا الحرص على إتاحة التعليم وجودته، شائع في المجتمعات الساعية إلى التقدم والريادة والرفاهية، في سياق ما بات يُعرف عالميًّا، بمبدأ “ديمقراطية التعليم” الذي يرتكز على “ثلاثة أُسُس”.. أولها: تعميم التعليم العام وجعله إلزاميًّا، ثم متاحًا للتعليم الجامعي مجانًا، على قاعدة المساواة وقدرات الطالب وذكائه وملكاته، بغض النظر عن حالته المادية.. وثانيها: إدارة مؤسسات التعليم بأسلوب ديمقراطي.. وثالثها: ألا تعتمد طرق التدريس والمناهج والمعارف على التلقين والحفظ، بل تهيئة الطالب للتميز وإعمال العقل والفكر.

مجانية التعليم والستينيات وطه حسين والعهد الملكي

أحدث الغارات على “مجانية التعليم” في مصر المحروسة، قامت بها الممثلة عبير صبري، عبر فضائية مصرية، متقمصة دور “الخبير”، مستنكرةً إتاحة التعليم مجانيًّا للجميع، وداعيةً لأن يكون طبقيًّا، على قدر الظروف المادية لكل فرد.. أما التعليم الجامعي، فهي تراه للمتفوق جدًّا، لأن هذه المجانية تكلف خزينة الدولة أموالًا كثيرة من جيوب دافعي الضرائب.

الخبيرة الممثلة تحدثت عمّا سمّته “الصورة النمطية للتعليم في الستينيات”، في إشارة إلى فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر (1954- 1970)، مع أن “المجانية” تقررت في العهد الملكي.. فقد انتزعها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889- 1973)، وقرر تعميمها لتكون حتى نهاية التعليم الثانوي، حين تولى منصبه وزيرًا للمعارف العمومية، بحكومة الوفد برئاسة مصطفى النحاس (1950- 1952).

الحوار مع عبير صبري، وقبل أن تقفز للانقضاض على المجانية، كان يدور أصلًا عن نشاطها الفني، وزوجها الفلسطيني، ومميزاته وكيف أنه “راكز وعاقل وكتوم”، وغيرها من توافه الأمور الشخصية التي لا تعني الجمهور، ولو بقيت في هذا السياق لما شغلتنا، لكنه إعلامنا الذي يعاني خللًا مهنيًّا شديدًا، وهو ليس ذنب هذه الممثلة.

على أن هجوم عبير صبري ليس المشكلة، فهو مجرد ترديد لنغمة حكومية وإعلامية سارية، تعلو وتخفت أحيانًا، ومنها هجمات الإعلامي عمرو أديب المتكررة منذ عام 2014 حتى الآن، وصرخاته الداعية إلى إلغاء مجانية التعليم الجامعي، ومن قبلهما وزير التعليم الدكتور طارق شوقي، المناهض علنا لـ”المجانية”، منذ توليه رئاسة المجلس الاستشاري الرئاسي للتعليم (سبتمبر/أيلول 2014)، ثم وزيرًا للتعليم (فبراير/شباط 2017)، بما فتح الباب واسعًا للإغارة عليها. إذ قال الوزير شوقي مرارًا إن “أولياء الأمور ينفقون 30 مليار جنيه سنويًّا على الدروس الخصوصية، ولن نستطيع رفع ميزانية التعليم”، وداعيًا بألا يتمتع بالتعليم الجامعي سوى الطالب المتفوق بـ”75% من الدرجات” أو أكثر، وإذا حاز درجات أقل في إحدى سنواته الجامعية، فعليه سداد التكلفة للسنة التالية (نحو 10 آلاف دولار)، لأنه “مفيش حاجة ببلاش”، طبقًا للشريعة السائدة الآن.

المعلمون وكثافة الفصول والطبقة المتوسطة

المهاجمون لمجانية التعليم المغضوب عليها، أيًّا كانت أسبابهم، ودوافع الذين يقفون وراءهم، يتجاهلون جميعًا الواقع المرير، الصارخ بأن المجانية تكاد تكون صورية، فالرسوم المدرسية فوق طاقة أكثرية أولياء الأمور، ونفقات “الدروس الخصوصية” تلتهم جُلّ دخل الأسرة، لتعويض نقص المعلمين وانخفاض رواتبهم، والكثافة العالية بالفصول، وتدهور الأداء التعليمي، وتخبط القرارات التعليمية وعشوائيتها. هذا كله في ظل تدني الدخول والأجور لأغلبية المواطنين، وتزايد عدد الواقعين منهم تحت خط الفقر إلى نسبة 30% تقريبًا (إحصاءات رسمية عام 2019)، بخلاف الملايين الذين سحبهم غلاء المعيشة إلى الفقر، تآكلًا لـ”الطبقة المتوسطة” وخصمًا منها.. هذا التدهور المعيشي -بدوره- يمنع استكمال ملايين الأطفال للتعليم الإلزامي الممتد إلى المرحلة الثانوية، فيتسربون مبكرًا من المدارس إلى سوق العمل، بخلاف أطفال الشوارع، وهي قضية ليست موضوعنا الآن.

الضابط الألباني وتاريخ التعليم في مصر

إن تاريخ التعليم في مصر، يخبرنا بأن الضابط الألباني الأصل محمد علي الكبير حين اعتلى أريكة الحكم واليًا للبلاد (1805- 1848)، وأراد صناعة دولة ناهضة قوية مهيبة، تتحرر من الدولة العثمانية، بادر بإرسال البعثات الطلابية إلى أوربا لدراسة مختلف العلوم الحديثة والتخصصات، واستعان بالعائدين من البعثات في إنشاء نظام تعليمي يحاكي النمط الفرنسي، ليكون هو الأب المؤسس لأول “نظام تعليمي مدني”، وهو القائم حاليًا، وهو نفسه الأساس الذي قامت عليه إمبراطورية محمد علي العصرية والقوية التي حُلم بها.

إن تحسين جودة التعليم ومعالجة مشكلاته المتفاقمة، هو الأولوية القصوى التي يجب أن تشغلنا، فالتعليم الجيد والمتاح للجميع، هو الأساس للنهضة والعصرنة والحداثة والتقدم، كي نأخذ مكانًا لائقًا في سباق الأمم نحو الريادة والقيادة والتفوق.

المصدر : الجزيرة مباشر