في بيتنا ضيف إسرائيلي ثقيل!

لسنوات طويلة قبع في ذاكرتي اسم السفير الفلسطيني أبورجائي، لا أذكر اسمه بالكامل، لكننا لم نعرف سواه في السودان، كان شديد الحضور في تفاصيل حياتنا اليومية بروحه الثورية الحامية، وقد أفلح الرجل بجدارة في جعل القضية الفلسطينية مشتعلة في نفوس أجيال مختلفة من السودانيين، كان يزورنا في المدارس والمساجد والبيوت الريفية، ويقرأ علينا من أشعاره كلمات كالرصاص، وقد ولجنا عبره إلى رسومات ناجي العلي وقصائد درويش وكتابات غسان كنفاني وبسالة الشهيد أحمد يس، فما انفك ينسل من حكاياتنا حتى توشحنا بالكوفية الفلسطينية، بكل رمزيتها، واحتلت القدس دواخلنا بطيب خاطر، لكنه فجأة توارى ومن ثم رحل بعد ذلك، فجار علينا الزمان، وانزلق عهد التسعينيات إلى ألفية بغيضة أمسكت بتلابيبها الدولة الصهيونية الشريرة، تريد أن تدخل بيوتنا بالإكراه، بعد أن أدخلت حُكامنا بيت الطاعة.

زيارة غير مُرحب بها

بعد ثورة ديسمبر/ كانون الأول عام 2018 التي سعت إلى استعادة الإرادة الشعبية، حدثت ردة لم تكن في الحسبان، وأضحت الوفود الإسرائيلية تزورنا خفية وعيانًا، وخفتَ رنين أجراس القدس لصالح حفيف الطائرات التي تقلع من مطار بن غوريون إلى الخرطوم بشكل مستمر، دون أن  يكون لنا الخيرة من أمرنا، وهى محاولة، على ما يبدو، لجعل الشارع السوداني يعتاد على مثل تلك الزيارات، كأمر واقع، كما يعتاد المرء على الدماء في نشرات الأخبار، وتسويق التطبيع من باب الديانة الإبراهيمية، رغم أن إبراهيم لم يكن يَهُوديًّا ولا نَصرَانيًّا، وإنما كان حنيفًا مُسْلمًا.

لم يحظ الضيف الإسرائيلي الثقيل في السودان بالحفاوة الشعبية التي كان يأملها، وقد جاهد بخفة غير متناهية لتصدير صورة مغايرة لدولة مُجرمة في واقع الأمر، يريد أن يقنعنا بأنه حمامة سلام، لا مجرم تاريخي يمارس الإرهاب والعنصرية فعلًا لا قولًا، دون أن ينتبه إلى أظافره الدامية التي قتلت أطفال غزة والجولان وعاثت في مجزرة صبرا وشاتيلا، وأرسلت دولته المارقة الطائرات المفخخة إلى بورتسودان ومصنع اليرموك جنوب الخرطوم، يريدنا أن ننسى كل ذلك، ظانًّا أنه بتغيير وضعية الكيباه، غطاء الرأس اليهودي، قد اخترق الوعي السوداني إلى الأبد، لكن هيهات.

الموساد ومنتجع عروس

دخل الإسرائيلي بلادنا دون إذن من صاحب الدار، وهو الشعب، وجلس إلى المائدة بتطفله المتوارث، وبدأ في توزيع أطباق الطعام ونصائح آداب الأكل، وهى ليست المرة الأولى بالطبع، فقد دخل من قبل خفية لترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا في تشرين الأول/ أكتوبر 1983، تلك العملية التي توط فيها نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري، ولاذ أغلب المشاركين فيها بالصمت، ربما لشعورهم بالخيانة والتواطؤ مع جهاز مخابرات اشتهر بالإجرام والقتل، وقد نجح الموساد حينها في بناء منتجع عروس بمدينة بورتسودان من خلال خداع هيئة السياحة السودانية، واستئجار المنتجع عبر شركة سويسرية للغطس في الظاهر، والتغطية على أخطر عملية مخابراتية من داخل الأراضي السودانية، هدفت في النهاية إلى إجلاء آلاف اليهود العالقين في معسكرات اللجوء لتوظيفهم في عمليات الاستيطان التي لم تتوقف حتى اليوم.

المغامرة الخاسرة

لا شك في أن التناقضات الداخلية في الحكومة الانتقالية لم تحل دون خطوات التطبيع، خاصة الأحزاب العروبية، التي شاركت في الجريمة السياسية سرًّا، ورهنت في تصريحاتها الكاذبة، تمرير الخطوة بموافقة البرلمان غير الموجود، والشاهد على تآمرها مع العسكر حديث عضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي بأن خطوات التطبيع جرت بالتشاور بينهم، ومن ثم جاءت خطوة إلغاء قانون حظر التعامل مع إسرائيل، بدم بارد.

الخطوة المعزولة بدأت بلقاء البرهان مع نتنياهو في أوغندا وكانت خطوة سرية، وهذا أكبر دليل على أن التخفي هو سمت التطبيع البارز، إذ لم يتم الإعلان عن اللقاء إلا من الجانب الصهيوني الذي حاول أن يبرز الحدث حينها باعتباره حدثًا انتخابيًّا، في حين أن العلاقات على المستوى الاقتصادي لم تحقق أي نتائج ملموسة، ولم تعد ذات جدوى للشعب السوداني، بل إن إسرائيل هي التي قطفت الثمار من خلال إيجاد فجوة بين السودان ومواقفه التاريخية الداعمة للقدس، قبلة المسلمين الأولى، وحصلت إسرائيل التي تأخذ عادة ولا تعطي، على إذن بعبور الطيران من فوق الأجواء السودانية إلى كافة الدول الإفريقية، ولم نجنِ نحن ما يكافئ هذه المغامرة الخاسرة، لا على المستوى العسكري ولا السياسي.

السقوط في الحُضن المُميت

ولعل السقوط في حضن إسرائيل المُميت هو نتيجة طبيعية لاصطفاف المحاور العربية الذي اختارت الخرطوم أن تنتظم فيه مؤخرًا، فأنت لا تستطيع أن تأكل مع أصحاب صفقة القرن دون أن تتسخ يديك، أو تلطخها في العلن، إذ إن لقاء البرهان ونتنياهو كانت تنقصه فقط مدينة جريئة تحتضنه مثل عنتيبي الأوغندية، فكل العواصم العربية كانت تعيش علاقة مع تل أبيب بشكل سري وخرجت مؤخرًا للشمس، وقد اختارت السلطة الانتقالية في السودان الإشهار أيضًا، ضاربة بتاريخ عاصمة اللاءات الثلاثة عرض الحائط.

تدرك إسرائيل أنها في حاجة إلى حكومة عسكرية سودانية تتحالف معها، وفي حال قيام حكومة مدنية منتخبة أو تحت ضغط الشارع، فإن فرص إحلال السلام معها تظل ضئيلة للغاية، وتعتقد أيضًا أن انقلاب البرهان فرصة لتوثيق العلاقات مع السودان، في حين يريد قادة الجيش الاستفادة من إسرائيل ونفوذها الغربي في توطيد دعائمهم، وتجنب الحصار الخارجي والعقوبات، رغم أننا دفعنا أثمانًا غالية للخروج من قائمة مزاعم الإرهاب، وبالتالي كل طرف يسعى للاستفادة من الطرف الآخر في تحقيق ما يصبو إليه، لكن تبقى إسرائيل هي الكاسب الأكبر حتى الآن، أما نحن فقد حصدنا الريح.

المصدر : الجزيرة مباشر