بورصة السلع المصرية وبيئة حاضنة معاكسة

البورصة المصرية

منذ السابع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أصبح لمصر بورصة للسلع، يتم تداول السلع فيها بين البائعين والمشترين، مع البدء بتداول سلعة القمح، مثلما يتم تداول الأوراق المالية من أسهم وسندات وصكوك في بورصة الأوراق المالية، وذلك بعد محاولات بدأت منذ عام 1994 وتجددت عام 2014 حتى خرجت للواقع أواخر الشهر الماضي.

لتعمل بورصة السلع بواقع جلستي عمل أسبوعيًا يومي الأحد والأربعاء، لمدة ساعتين من الساعة الثانية ظهرًا وحتى الرابعة، بينما تعمل بورصة الأوراق المالية خمسة أيام بالأسبوع من الأحد وحتى الخميس.

وخلال جلسة العمل الأولى قامت شركات المطاحن الخاصة بطلب شراء حوالي 20 ألف طن من القمح الروسي المستورد، بأسعار محددة من خلال 28 طلبًا منفصلًا لشراء القمح، الذي تعرضه هيئة السلع التموينية التابعة للدولة للبيع، لتقوم الشركة البائعة باختيار الأسعار المناسبة لها، خلال ساعة واحدة من انتهاء جلسة التعامل، والتي أسفرت عن بيع 12 ألف طن بسعر 9750 جنيهًا للطن خلال 18 عملية بيع.

وذكر رئيس البورصة السلعية الجديدة الذي يشغل في الوقت نفسه رئيس جهاز تنمية التجارة الداخلية التابع لوزارة التموين، أن البورصة السلعية هي بورصة سلع حاضرة بمخازن البائع، أي أن الجهة البائعة تحتفظ بالكمية المعروضة للبيع من القمح والتي تحدد مواصفاتها الفنية للمشترين، بمخازن شركة الصوامع الحكومية بحيث يتم تسليم الكميات التي تم تخصيصها لكل مشترٍ من تلك المخازن بعد قيامه بسداد قيمة الشراء.

      تعثر محاولة مبارك عام 1994

وذكر أنه تم البدء بسلعة القمح بعد دراسة عشر سلع تتوافر فيها صفة قابليتها للتخزين وكبر حجم الطلب عليها وتعرّض أسعارها للتغير، بحيث يمكن أن يتم التعامل عليها في بورصة السلع مستقبلًا بعد أن تتم توعية المجتمع الاقتصادي عمليًا بالبورصة السلعية ونظام العمل بها، وإدراك المزايا التي تحققها للمتعاملين من تقليل لدور الوسطاء وتحقيق الشفافية والإفصاح في التعامل.

وبذلك يمكن مستقبلًا إدخال التعامل بسلع زراعية مثل السكر والأرز والقطن، ويمكن التعامل مع المعادن مثل الحديد والذهب وكذلك على البتروكيماويات، مع دراسة سلع أخرى مثل الدواجن وبيض المائدة إلا أن إدخال سلع أخرى مرهون بنجاح تجربة التعامل في القمح.

وتاريخيًا كانت لمصر بورصة تجارية للقطن في الإسكندرية منذ عام 1884، وظلت تعمل حتى تم تعطيلها مؤقتًا عام 1952 مع تولي الجيش السلطة، ثم تكرر تعطيلها مرة أخرى عام 1961 بعد قرارات تأميم الشركات وانتهاج المسار الاشتراكي الذي يرتكز على دور الدولة بالنشاط الاقتصادي، حتى صدر قرار تصفية بورصة عقود القطن عام 1996.

ومع العودة إلى نظام الاقتصاد الحر منذ عام 1974 دفعت المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي من خلال اتفاقيات القروض معها، إلى إعادة تنشيط دور بورصة الأوراق المالية والذي تحقق بإصدار قانون رأس المال عام 1992، وحاول الرئيس مبارك إحياء بورصة القطن من خلال إصدار قانون بإنشاء بورصة البضاعة الحاضرة للأقطان -بورصة مينا البصل- عام 1994، لكن الأمر لم يتحقق.

وبعد ذلك جرت محاولة لإقامة بورصة للدواجن بمدينة بنها في محافظة القليوبية، لكنها كانت أقرب للمزادات فلم تنجح أيضًا، وخلال تولي الدكتور خالد حنفي وزارة التموين حاول عام 2014 إنشاء بورصات سلعية في المحافظات كلها، وبالفعل عرض تصوره على القيادة السياسية بإنشاء بورصة للسلع والخدمات.

وكان من نتائج مؤتمر شرم الشيخ للاستثمار بمصر في مارس/آذار 2015 إنشاء بورصة للحبوب في دمياط، لكن المشروع لم يتحقق مثل باقي نتائج مؤتمر شرم الشيخ التي كانت مجرد خطابات نوايا، وليست اتفاقيات مُلزمة.

  التحول من الخضر والفاكهة للمحاصيل

وخلال تولي المهندس طارق قابيل وزارة التجارة والصناعة سعى عام 2018، لإنشاء بورصة سلعية للخضر والفاكهة بمركز بدر في محافظة البحيرة، والتي طلب الجنرال خلال المؤتمر الرابع للشباب بمكتبة الإسكندرية بأن تنتهي خلال عام، مما دفع البنك الصناعي لتمويل التجار لإنشاء الوكالات والثلاجات ومحطات التصدير بالمشروع، لكن المشروع تحول إلى أسلوب المزادات وانحسرت عنه الأضواء.

وفي العام نفسه صدر قانون بإضافة باب خاص لقانون سوق رأس المال يسمح ببورصات العقود الآجلة سواء للأوراق المالية أو للسلع، لكنه لم يتم ترجمة تلك النصوص إلى واقع عملي حتى الآن، نظرًا لارتفاع مخاطر العقود الآجلة وضعف الإلمام بها بين المتعاملين حتى في بورصة الأوراق المالية.

وعاد الملف إلى وزارة التموين مرة أخرى عام 2019، بإعلان جهاز تنمية التجارة الداخلية التابع لوزارة التموين عن الاتفاق مع شركة فرنسية لإنشاء بورصة سلعية في السويس والصعيد والوجه البحري والقاهرة الكبرى، وأعقب ذلك صدور قرار لرئيس الوزراء عام 2020 بتأسيس شركة البورصة السلعية، والتي تم تأسيسها في شهر سبتمبر/ أيلول للعمل في السلع الحاضرة القابلة للتخزين.

وتوزع هيكل المساهمين للشركة ما بين 34% للبورصة المصرية و11% لهيئة السلع التموينية، وحوالي 10% للبنك الزراعي، ونسبة 6.6% للبنك الأهلي والنسبة نفسها لبنك مصر كأكبر بنكين حكوميين في البلاد.

و5.5% لجهاز تنمية التجارة الداخلية، والنسبة نفسها لكلٍ من شركة مصر للتأمين القابضة وشركة مصر للمقاصة، ونسبة 3.3% لكلٍ من شركة هيرميس وشركة بلتون القابضة وشركة سي آي كابيتال للاستثمارات المالية التابعة لبنك مصر، وهو ما يكشف عن الهيمنة الحكومية على الشركة التي تم الإعلان عن رقابة وزارة التموين عليها.

  ضعف الإفصاح والشفافية عن التعامل

وخلال عامي 2020 وحتى 2021 ظلت الجهات المشرفة تحدد مواعيد مختلفة لبدء النشاط، لكنها لم تحقق حتى كانت البداية أواخر الشهر الماضي، وفي ضوء ما ظهر من خلال الممارسة العملية يمكن إبداء عدد من الملاحظات على البورصة السلعية.

أولها أنه من الظلم أن نسميها بورصة للسلع، ليس بسبب أنها تتعامل في سلعة واحدة، فبورصة أثيوبيا السلعية تتعامل في سلعة واحدة هي البن، وبورصة سنغافورة للسلع تتعامل في سلعتي المطاط وزيت النخيل، ولكن لأن البورصة تعني وجود عدد من المشترين والبائعين يتعاملون على سلعة أو أكثر، وهو أمر غير متحقق حاليًا بوجود بائع وحيد وهو هيئة السلع التموينية، مما يجعل نشاطها أشبه بنشاط المزايدات.

حيث يصعب على شركات القطاع الخاص منافسة هيئة السلع التموينية في عرض بيع القمح، لعدم وجود دولارات في البنوك تسمح لها باستيراد القمح، وعرضه من خلال البورصة السلعية بجانب قمح هيئة السلع التموينية، إلى جانب أن المناخ العام لا يعطي الفرص الكافية لشركات القطاع الخاص لمنافسة الجهات الحكومية.

ناهيك بما حدث من تحفظ على أموال شركات خاصة مما جعل بعضًا منها يقلص نشاطه، ولذلك كانت نتيجة اليوم الأول بيع 12 ألف طن من القمح، بينما تشير بيانات عام 2020 الرسمية لبلوغ حجم الاستهلاك الأسبوعي للقمح 432 ألف طن.

كذلك الحديث عن قضاء تلك البورصة السلعية على الوسطاء غير صحيح حتى الآن، حيث أن العمل من خلال البورصة بالبيع والشراء يتطلب الحصول على عضوية البورصة السلعية أولًا، وهذه العضوية لا يتم منحها إلا لشركات لها سجل تجاري وسجل ضريبي وسجل صناعي لو كانت شركة صناعية، مما يعني عدم استطاعة صغار المزارعين بيع محصولهم من خلال البورصة، حتى ولو جمعوا فيما بينهم كميات معقولة، ليظل التعامل لكبار التجار الذين سيعيدون البيع لصغار التجار، لتظل حلقات الوساطة موجودة.

أما مسألة توفير البورصة للإفصاح والشفافية فهذا أمر ما زال بعيد المنال، حيث أن الموقع الإلكتروني للبورصة السلعية لم ينشر نتائج جلسة العمل الأولى التي تتم بالساعة الخامسة مساءً، حتى صدر بيان وزارة التموين باليوم التالي ليعيد نشره على الموقع دون أية إضافة تخص النواحي الفنية لنوعية القمح المباع أو غير ذلك من تفاصيل عن كميات الصفقات، وتكرر ذلك مع الجلسة الثانية للتعامل.

إدارة القطاع الخاص للبورصة أكثر إفادة

وعندما يذكر رئيس البورصة السلعية أن هناك 200 شركة قد سجلت عضويتها في البورصة، فإن هذا حديث غير كاف، حيث تتوزع تلك العضوية على ستة أنواع من العضوية، هي: الشركات التي تعمل لحسابها أو لحساب عملائها كوسيط، والشركات التي تعمل بالبورصة السلعية لحسابها.

وشركات صانع السوق التي توفر السيولة، وشركات إدارة المخازن وشركات التصنيف والفحص والتدقيق، وأخيرًا بنوك التسوية أي التي تقوم بخصم قيمة البضاعة المشتراة من حسابات المشترين الموجودة بها، وتحولها إلى حساب الشركة البائعة.

بينما لا نجد اسم شركة واحدة من تلك الأنواع الستة للشركات بالموقع الإلكتروني، رغم أنه من الأهمية أن تطلع الشركة القائمة بالشراء على أسماء شركات التصنيف والفحص والتدقيق للتأكد من جدارتها للقيام بمهمتها، حتى تتسلم القمح بالمواصفات المُعلنة وقت البيع، أو معرفة أسماء الوسطاء للقيام بالشراء نيابة عنها، لوجود بعضها بعيدًا عن العاصمة أو لصغر الكميات التي تود شراءها، أو لعدم خبرتها بعمليات البورصة الجديدة.

ولذلك نقترح أن يتم منح منصب الرئيس للجهة صاحبة النصيب الأكبر بين المساهمين وهي البورصة المصرية، للاستفادة من خبرتها في إدارة البورصات، وفي الإفصاح والشفافية وهي التي توفر بيانات تداول الأوراق المالية بشكل لحظي.

وإن كان الاقتراح الأفضل هو زيادة نصيب القطاع الخاص في هيكل ملكية شركة البورصة السلعية، واحتفاظ الحكومة بحصة أقلية من خلال تقليص حصص الجهات الحكومية الحالية، حيث تتوافر لدى الشركات الخاصة المساهمة قدرات مالية ضخمة مكّنتها من شراء حصص في بنوك كبيرة، بما ينقذ البورصة السلعية من الإدارة البيروقراطية الحالية.

ولنا في تجربة الهاتف المحمول في مصر خير شاهد، حين بدأ تحت مظلة الشركة المصرية للاتصالات المملوكة للحكومة، وظل نشاطًا قاصرًا على طبقة الأغنياء ورجال الأعمال، حتى تم بيع النشاط إلى رجل الأعمال نجيب ساويرس ليرفع شعار المحمول في يد الجميع، وبالفعل أصبح في يد الجميع خلال سنوات قليلة، بل تسببت المنافسة واتساع السوق في دخول ثلاث شركات أخرى للنشاط حتى تخطى عدد المشتركين عدد السكان.

فمع الشركة الخاصة سيكون هناك إسراع بدخول الأرز الذي يصل الاستهلاك السنوي منه حوالي 5 ملايين طن، والذرة الشامية التي يصل استهلاكها السنوي حوالي 17 مليون طن، وحتى الفول الجاف الذي يصل استهلاكه 750 ألف طن، حيث أن دور البورصة السلعية مطلوب بالفعل في الأسواق لإتاحة المزيد من الإفصاح عن تجارة السلع، وتهيئة سبل لقاء البائعين والمشترين.

أما الزعم بأنه أصبح هناك بورصة سلعية في مصر، فإنه يدفعنا للقول بأن هذا الأمر ما زال بعيد المنال على المستوى العملي والفني والإداري، أو كما يُقال باللغة المصرية العامية “لسه بدري”.

المصدر : الجزيرة مباشر