الخيال السياسي والحركة الإسلامية: هل يصبح الإسلام فاعلا في بناء مستقبل العالم؟!

صورة لأردوغان في إحدى معارك الانتخابات التي خاضها حزب العدالة والتنمية

إن أهم نتيجة يمكن أن نتوصل إليها من دراسة الواقع، أن العالم يواجه أزمة متعددة الأبعاد، وأن إنقاذ البشرية يحتاج إلى أفكار جديدة. فهذه الأزمة كانت نتيجة لمنظومة الأفكار التي انتشرت في عصر الاستعمار والهيمنة الأمريكية على العالم طوال القرنين الماضيين.

وإنتاج أفكار جديدة لبناء المستقبل يحتاج إلى خيال سياسي يتحرر من أسر السيطرة الأوربية الأمريكية، ومن الخرافات العنصرية الغربية.

ومن المؤكد أن هناك من يملك أفكارا يمكن أن تساهم في بناء عالم جديد أكثر عدلا، لكن العالم يحتاج إلي فتح المجال العام ليستمع إلى هذه الأفكار، وأن يكسر القيود التي فرضها الاستعمار على البشرية.

ولكي ينطلق الخيال السياسي ليبني المستقبل يجب أن نعمل لتحريره من المصطلحات الدعائية الزائفة مثل الإرهاب والتطرف والتزمت والتخلف والحداثة والتقدم.. فهذه المصطلحات شكلت قيودا على العقول، وأثارت الخوف في القلوب، وجعلت الكثير من المفكرين يفقدون شجاعتهم خوفا من اتهامات زائفة يمكن أن تقودهم بسرعة إلى السجون، أو حبال المشانق، أو الإعدام بالرصاص في الشوارع.

هذه المصطلحات ارتبطت بالحرب على الإسلام، حيث تزايد استخدامها منذ أحداث 11 سبتمبر، وفرضتها أمريكا على وسائل الإعلام التي أصبحت تستخدمها لتوصيف أي أفكار إسلامية تتحدى السيطرة الأمريكية على العالم، وتحفز الشعوب لتحقيق الاستقلال الشامل، والتحرر من الاستعمار الثقافي.

الخيال السياسي العلماني المحدود!

توضح دراسة الكثير من الأحداث أن الخيال السياسي للتيار العلماني -خاصة في العالم العربي- محدود جدا، فلم يستطع أن ينتج أفكارا جديدة يمكن أن تشكل جسورا للتعاون والمشاركة مع التيار الإسلامي.

لذلك اتجه التيار العلماني إلى التعاون مع السلطات الاستبدادية بهدف استئصال التيار الإسلامي، ونفيه من الحياة، بالرغم من أن دراسة تاريخ القرن العشرين توضح فشل تجارب السلطات الاستعمارية والاستبدادية في القضاء على هذا التيار.

لم يتحقق التفاهم المشترك. لماذا؟!!

ولقد استخدمت هذه السلطات القوة الغاشمة في الكثير من الدول للقضاء على التيار الإسلامي، لكنها لم تستطع، بل ازداد هذا التيار قوة نتيجة تعاطف الجماهير مع كفاحه، وثباته على مبادئه.

لكن ضعف الخيال السياسي للتيار العلماني منعه من إدراك الحقيقة التي كان يمكن أن تشكل أساسا لتحقيق تفاهم مشترك حول مجموعة من المبادئ التي تحمي حقوق الإنسان والشعوب، وتفتح المجال العام لتبادل الأفكار والآراء، وتحقيق التعاون والمشاركة لبناء المستقبل.

هناك الكثير من الأدلة على ضعف الخيال السياسي للتيار العلماني بسبب ارتباطه بالفكر الغربي الاستعماري، وتبعيته لأمريكا وأوربا، وعدم قدرته على الارتباط بالجماهير في العالم العربي، وتعاليه على الشعوب، واستكباره عليها.

لكن المشكلة أن الخيال السياسي للتيار الإسلامي محدود أيضا، فلم يتمكن من الانطلاق لبناء رؤية للمستقبل، بالرغم من انتماء الكثير من علماء السياسة والإعلام والاجتماع والتاريخ لهذا التيار.

والسؤال الذي يجب أن يطرحه التيار الإسلامي على نفسه، ويبحث له عن إجابة جديدة هو ما دور هذا التيار في بناء مستقبل العالم الذي يشهد الآن تغيّرا سريعا وشاملا؟!

الإسلام وحرب العقول!

هناك صراع مرير يشهده العالم الآن بين الذين يمتلكون القوة الغاشمة، ويستخدمونها باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأهداف.

وهذه القوى تخوض معركة كسر عظم على كل المستويات، من أهم نتائجها أن نذر أزمة اقتصادية شاملة بدأت تلوح في الأفق، وستؤدي هذه الأزمة إلى انتشار الجوع والفقر والمعاناة الإنسانية، والظلم.. وأنه لم يعد أمام الشعوب الفقيرة سوى الثورة للدفاع عن حياتها، فالثورة وحدها تحمل الأمل لهذه الشعوب.

فرص جديدة لقيادة الشعوب!

لذلك سيشهد العالم -خلال المستقبل القريب- حرب عقول وأفكار ورؤى ومشروعات للتحرر من الاستعمار والتبعية، وهذا التحرر هو البداية لبناء عالم جديد يمكن أن تستخدم فيه الشعوب ثرواتها لبناء اقتصاد الاستقلال القائم على الاكتفاء الذاتي، وتوظيف الثروة البشرية، وتحقيق نهضة تعليمية وثقافية.

ولكي ينطلق خيال الإسلاميين السياسي يجب أن يقوم العلماء بتقديم قراءة متعمقة للتجارب التاريخية الإسلامية التي يمكن أن تضيء لهم الطريق لبناء المستقبل.

وأهم ما يمكن أن نكتشفه من تلك القراءة أن الإسلام يملأ القلوب قوة وشجاعة ويحررها من الخضوع للواقع، وهذا يدفع الخيال إلى الانطلاق لتحقيق أهداف عظيمة أهمها تحرير البشرية من الطغيان.. وهذا نقطة البداية لبناء المستقبل.. لماذا؟!

من يتحدى القوة الغاشمة؟!!

من أهم أسباب الكوارث التي يتعرض لها العالم الآن هو خوف الشعوب من القوة الغاشمة، واعتقاد أن من يمتلك تلك القوة يستطيع أن يفرض سيطرته ويقهر الآخرين، ومن حقه أن ينهب ثروات الشعوب، وأن من يتحدى هذه القوة الغاشمة يتم تجريمه واضطهاده بحجة أنه غير واقعي وإرهابي وأصولي ومتطرف ومتزمت.

ومنظومة الاتهامات هذه تثير الرعب في القلوب، وتجعل الذين يمتلكون الأفكار والرؤية يخافون من إعلانها.

لذلك فإن التيار الإسلامي يمكن أن يكون فاعلا في بناء المستقبل عندما يمتلك القدرة على توعية الناس بقدرتهم على تغيير الواقع، وتحدي القوة الغاشمة.

كما أن توظيف الثروة البشرية يحتاج إلى تحرير الناس من الخوف، فالذين يمتلكون الشجاعة هم الذين يمكن أن يغيروا الواقع.

ولكي نحرر الناس من الخوف يجب أن نعمل لتحريرهم من الاستعمار الثقافي الغربي، ومن الأفكار التي ارتبطت به مثل تمجيد الضعف الإنساني، والتركيز على الحاجات المادية، وأن يبحث الإنسان عن وسائل لتحقيق أهدافه بشكل فردي دون التعاون والمشاركة مع الآخرين لتغيير الواقع ومقاومة الظلم، والتوزيع العادل للثروات.

ولكي نعيش أحرارا يجب أن ينطلق خيالنا السياسي لقيادة كفاح المجتمعات في عمل منظم لتحقيق أهداف طويلة المدى، من أهمها تحقيق العدالة، وضمان الحياة الكريمة لكل إنسان، وتقديم نموذج جديد لمجال عام تنطلق فيه الأفكار، وتتم فيه مناقشة المشروعات الحضارية، وضمان حق المواطنين في الاختيار الحر للمشروع الذي يريدون بناء مستقبلهم على أساسه.

نوعية جديدة من القيادات!

لكن لكي يقوم التيار الإسلامي بدور فاعل في بناء المستقبل، وتوظيف الثروة البشرية، فإنه يحتاج إلى نوعية جديدة من القيادات تطلق العنان لخيالها السياسي، وتقرأ التاريخ والواقع بعمق، وتقوم بصياغة مشروع حضاري لبناء عالم جديد أكثر عدلا وحرية، وتقديم الإسلام بوصفه فاعلا في كفاح الشعوب للتحرر من الاستبداد والاستعمار والفساد والاستغلال الرأسمالي.

ولكي ينطلق الخيال السياسي يجب بناء أرضية مشتركة يمكن اللقاء عليها مع كل التيارات مهما كانت حدة الخلافات للاتفاق على منظومة من المبادئ التي تكفل أخلاقيات الحوار وتبادل الأفكار والتعاون والمشاركة.

من حق التيار الإسلامي أن يفخر بكفاح قياداته، وثباتهم على مبادئهم، والتضحية من أجلها.

وهناك الكثير من النماذج الإنسانية التي يمكن أن تشكل دراسة سيرتها إمكانيات لتطوير علم القيادة، ولتحفيز شباب الأمة للانطلاق في ميادين الدعوة والعمل والكفاح.

كما أن سِيَر هؤلاء القادة يمكن أن تشكل ثروة فكرية وعلمية تساهم في بناء المستقبل. لذلك فإن الدعوة إلى اختيار نوعية جديدة من القيادات لا تعني التقليل من أهمية كفاح قيادات التيار الإسلامي في كل دول العالم.

لكن هذه الدعوة تعني أن العالم يواجه تحديات جديدة، وأن البشرية يجب أن تنطلق لتغيير الواقع. لذلك فإن التيار الإسلامي يحتاج إلى قيادات جديدة تمتلك خيالا سياسيا لبناء المستقبل.

حزب العدالة والتنمية: تجربة متميزة

ودراسة تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا توضح أهمية هذا الاتجاه. فبقيادة رجب طيب أردوغان تمكن هذا الحزب من تحويل تركيا إلى قوة عالمية تواجه التحديات بنموذجها السياسي والاقتصادي المتميز.

لقد أصبحت تركيا فاعلا في هذا العالم، حيث تقوم بدور لا يمكن تجاهله في السياسة العالمية. ومن المؤكد أن التجربة التركية يمكن أن تضيء للشعوب إمكانيات بناء المستقبل، وتوظيف ثرواتها البشرية والطبيعية في بناء اقتصاد قوي.

وكان من أهم العوامل التي ساهمت في بناء قوة تركيا أن رجب طيب أردوغان وقادة حزبه أطلقوا العنان لخيالهم السياسي والجغرافي والاجتماعي والتاريخي، فرأوا تركيا في خيالهم قوة إقليمية وعالمية، وعلى ذلك بنوا رؤيتهم للمستقبل.

لذلك يجب أن ندرس تجربة حزب العدالة والتنمية بعمق لا لنقلدها -فلكل مجتمع ظروفه ومشكلاته- ولكن لندرك أن الأهداف العظيمة الطويلة المدى يمكن أن تتحقق.

المصدر : الجزيرة مباشر