صعود اليمين الأوربي المتطرف: خرائط الانتشار والتأثير

في خطابه عن حالة الاتحاد الأوربي عام 2018، وصف رئيس المفوضية الأوربية السابق جون كلود يونكر التيارات اليمينية بـ”القومية غير الصحية” في القارة، مضيفًا أن “حب الوطن فضيلة، ولكن النزعة القومية الخارجة عن السيطرة مليئة بالسم والخداع”.

وخلال السنوات الخمس الماضية أصبح صعود تيارات اليمين المتطرف اتجاهًا واسعًا عبر معظم دول أوربا، ورغم أن الأفكار القومية دائمة الحضور في السياسة الأوربية خلال القرنين الماضيين، لكنها تشهد خلال هذه المرحلة مستويات مرتفعة من التأييد لأحزاب أقصى اليمين وما تروج له من أفكار شعبوية متشددة، والسمة الرئيسة الغالبة على الجماعات والأحزاب اليمينية، هي خطاب وجود تهديد عرقي أو ثقافي ضد مجموعة “أصلية” من قبل مجموعات تعد دخيلة على المجتمع، وعن ضرورة الحفاظ على الهوية الوطنية.

مع تنامي النزعة القومية، وفكرة العرق الأرقى والجنس الأنقى، والشعور القوي بالهوية الوطنية والثقافية إلى درجة اعتبار أن اندماج ثقافات أخرى يُشكل تهديدًا على تلك الهوية، ولذلك ترفض فكرة التنوع، واستمالة الجماهير عبر إعطائهم شعورًا بالانتماء والفخر، عبر أدوات دعائية قوية، خاصة في المناطق الفقيرة التي تعاني من نسبة بطالة مرتفعة، ويشعر سكانها بالتهميش من المؤسسات السياسية.

كما يؤمن أفراد هذه الجماعات بتحيزات دينية قوية، إذ يعد بعضها أنفسهم مدافعين عن الدين المسيحي، ويستخدمون ذريعة الحفاظ على القيم المسيحية في مواجهة الأديان الأخرى وخاصة الإسلام، حيث تصاعد العداء للمسلمين، أو ما يعرف بـ”الإسلاموفوبيا”، والقائمة في جوهرها على فكرة تنميط المسلمين المهاجرين، والترويج لأنهم غير مندمجين في المجتمعات الأوربية ويشكلون بؤرًا للإرهاب، ورغم التأييد الذي تحظى به جماعات اليمين من قبل رجال دين ومتدينين مسيحيين، إلا أن هناك من يرى أن مبادِئه تتعارض مع قيم التسامح المسيحية وخاصة في ظل تطرف مواقفهم تجاه اللاجئين والمهاجرين.

تمدد اليمين شرق أوربا وغربها

بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوربي 2019، بدأ خطر اليمين يتعاظم، حيث وصل عدد الأعضاء اليمينيين داخل البرلمان الأوربي إلى 149 نائبًا من إجمالي 751 عضوًا، مشكّلًا بذلك ثاني أكبر كتلة تصويتية في البرلمان، وهو ما انعكس على توجهات البرلمان الأوربي في العديد من الملفات من أهمها التشريعات الحاكمة للمنظومة الأوربية كاملة، وفي يوليو/تموز 2021، وقّع عدد من قادة الأحزاب اليمينية في إيطاليا وإسبانيا والمجر وفرنسا بيانًا مشتركًا لتشكيل ما أسموه “تحالفًا كبيرًا” داخل البرلمان الأوربي يسمح لهم بفرض كلمتهم في أي اقتراع “من أجل إصلاح أوربا”، حسب نص البيان.

وفي يناير 2022، استضافت مدريد النسخة الثانية من مؤتمر “الزعماء الأوربيين الوطنيين والمحافظين”، برعاية من حزب فوكس اليميني المتطرف الذي يُعد ثالث أكبر حزب في البرلمان الإسباني، والذي يحشد أنصاره استعدادًا للانتخابات العامة في 2023، وقد أُسس حزب فوكس عام 2014 على يد عدد من الأعضاء السابقين في الحزب الشعبي المحافظ، يمين الوسط، الذين كانوا يشعرون بالسخط بسبب ما عدّوه السياسات الاقتصادية الفاشلة للحزب آنذاك، وما قالوا إنه “رد ضعيف” على النزعة الانفصالية المتزايدة في إقليمي الباسك وكتالونيا.

وشاركت في مؤتمر مدريد قيادات من القوميين ورموز اليمين الأوربي، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراويكي، ونظيره المجري فيكتور أوربان، ورئيسة تجمع اليمين السياسي في فرنسا مارين لوبان، وقيادات اليمين المتطرف في النمسا وبلجيكا وإستونيا وبلغاريا وهولندا ورومانيا، ووصف رئيس حزب فوكس سانتياجو باسكال هدف المؤتمر بتشكيل فريق “يدافع عن أوربا عبر إيجاد بديل للنزعة العولمية التي تهدد اتحادها، وتتهجم على سيادة أممها”.

عام 2022 وصعود اليمين إلى القمة

أجريت خلال العام 2022 العديد من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الدول الأوربية، وشهدت هذه الانتخابات صعودًا لافتًا بل كاسحًا لليمين الأوربي، ففي أبريل 2022، فاز فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر اليميني، في رابع فوز على التوالي لحزب “الاتحاد المدني المجري” منذ عام 2010.

يتهم أوربان الحركات اليسارية بالتآمر على الغرب وعلى المجر، ويتبنى نظرية “الاستبدال العظيم” من أجل تقديم حججه، والتي تهدف، وفقًا لمؤيديها، إلى إضعاف “السكان البيض في الولايات المتحدة والدول الأوربية عن طريق الهجرة”، وقد استقالت زسوزسا هيجدوس، المساعدة المقربة منه، اعتراضًا على تصريحاته التي وُصفت بأنها عنصرية حول فكرة “خلط الأعراق”، وانتقاده للاختلاط بين الأوربيين وغير الأوربيين، واصفة خطابه بأنه “نازي صرف”.

وفي بلغاريا، حصد حزب رئيس الوزراء البلغاري اليميني السابق بويكو بوريسوف 25.5% من إجمالي عدد الأصوات في الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد في الثاني من أكتوبر 2022، متقدمًا على حزب “فلنواصل التغيير” الذي يقوده منافسه الوسطي كيريل بيتكوف الذي حصل على نحو 19.9%، وذلك في رابع انتخابات تشهدها البلاد خلال عام ونصف عام فقط، وسيطر فيها اليمين المتطرف على انتخابات أبريل 2022.

ومن بلغاريا إلى فرنسا، شهدت انتخابات الرئاسة الفرنسية في أبريل 2022، منافسة حادة بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، المعارض لنفوذ الاتحاد الأوربي والهجرة، ورغم فوز ماكرون بنسبة 58.5% من الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات، فقد حصدت لوبان نسبة 41.5%، وقامت بالربط بين الهجرة والإرهاب في محاولة لحشد تأييد الناخبين، وفي يونيو 2022، فاز حزب التجمع الوطني اليميني بـ89 مقعدًا في الانتخابات الفرنسية البرلمانية، ليشكل ثالث أكبر كتلة في البرلمان، حيث حلّ ائتلاف “معًا” الذي يقوده الرئيس إيمانويل ماكرون أولًا بـ245 مقعدًا، يليه ائتلاف “الاتحاد الشعبي الاجتماعي والإيكولوجي الجديد” الذي يقوده اليساري الراديكالي جان لوك ميلونشون بـ131 مقعدًا. الأمر الذي يعني تضاعف الكتلة النيابية للتجمع الوطني المتطرف أكثر من 11 مرة، حيث لم يتعدَّ حجمها خلال الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد عام 2017 ثمانية نواب فقط.

سبتمبر 2022 وصعود اليمين من يمينيّ السويد إلى إخوان إيطاليا

في الانتخابات التي شهدتها السويد في 11 سبتمبر 2022، حقق حزب “ديمقراطيو السويد” اليميني المتطرف مكاسب كبيرة حيث أصبح ثاني أكبر حزب سياسي في البلاد وأكبر الأحزاب اليمينية في البلاد، وقد نشأ الحزب من رحم الحركة النازية الجديدة في ثمانينيات القرن العشرين، ودخل البرلمان بعد فوزه بنسبة 5.7% من الأصوات عام 2010، ثم ارتفعت النسبة إلى 17.5% عام 2018، وتخطت نسبته 20% في انتخابات 2022.

وتفوّق التكتل اليميني، المؤلف من المعتدلين والليبراليين والديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين السويديين، في النتائج النهائية للانتخابات، وأقرت رئيسة الوزراء المنتهية ولايتها مجدالينا أندرسون بالهزيمة، بعد أن حكم حزبها البلاد منذ 2014، وتم تكليف رئيس الحزب السويدي المحافظ أولف كريسترسون رسميًا بتشكيل الحكومة، بعد فوز كتلة اليمين واليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية خلفًا للاشتراكية الديمقراطية ماجدالينا أندرسون.

ومن السويد إلى إيطاليا، حيث كانت الضربة الأقوى مع نجاح قوى اليمين المتطرف في تحقيق انتصار كبير، ممثلًا في حزب “إخوة إيطاليا” (فراتيلي ديتاليا) في انتخابات سبتمبر 2022، حيث أسفرت نتائج الانتخابات عن حصول الائتلاف اليميني الذي تقوده جورجيا ميلوني على نسبة 43.8% من مقاعد مجلسي الشيوخ والنواب، في حين أن الأغلبية اللازمة لتشكيل حكومة تتطلب الحصول على 40% من مقاعد المجلسين فقط، وجاء تحالف اليسار في المرتبة الثانية وحصد 26% من المقاعد، وتلته حركة خمس نجوم عند 15.4%.

وتنبع أهمية نتائج الانتخابات الإيطالية من موقع إيطاليا ومكانتها اقتصاديًا وعسكريًا، حيث تعد البلد الثالث في اقتصاد دول الاتحاد الأوربي، وتمتلك ثاني أقوى جيش أوربي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وستتولى وللمرة الأولى في تاريخ البلاد امرأة رئاسة الحكومة الإيطالية، هي جورجيا ميلوني زعيمة حزب إخوان إيطاليا.

وأعربت ميلوني عن رغبتها في إغلاق الموانئ الإيطالية أمام المهاجرين القادمين من ليبيا، وذكرت في أحد أحاديثها “اليسار العلماني والإسلام الراديكالي يهددان جذورنا.. إما أن تقولوا نعم أو لا. نعم للعائلة الطبيعية، لا لجماعات المثليين الجنسيين… نعم لعالمية الصليب، لا للعنف الإسلامي. نعم لتأمين الحدود، لا للهجرة الجماعية”.

صعود اليمين.. أبعاد ومآلات

إن من شأن صعود تيارات اليمين المتطرف أو ما يسمى في بعض الأدبيات “أقصى اليمين” لا يشكل تهديدًا فقط للنظم السياسية القائمة في الدول التي نجح فيها، من باب المصالح الوطنية لهذه الدول، ولكنه يشكل تهديدًا أكبر للنسيج الاجتماعي لشعوبها، وخلق حالات من الاضطرابات والأزمات المجتمعية من ناحية ثانية، كما أن خطر التهديد على المدى البعيد يمكن أن ينال من استقرار هياكل ومؤسسات الاتحاد الأوربي، بل ويهدد بقاء الاتحاد من أساسه، خاصة أن تنامي التيارات اليمينية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين قاد لحرب عالمية ثانية كانت القارة الأوربية أكبر مسارح عملياتها، من ناحية ثالثة.

ومن ناحية رابعة، فإن هناك تهديد مرحلي، يرتبط بالمواقف السياسية لبعض القيادات اليمينية المتطرفة تجاه الحرب الأوكرانية وتجاه الموقف من روسيا الاتحادية، واستعداد بعضهم من هذه القيادات للتعاطي بإيجابية مع الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، ويزيد من الشكوك حول توجهات الأحزاب والتيارات اليمينية المتطرفة وخاصة في إيطاليا من روسيا، حديث عدد من التقارير الإعلامية عن دعم مالي روسي لمجموعة من هذه الأحزاب وتلك التيارات، بهدف تسهيل وصولها إلى السلطة على أن تتبنى مقابل ذلك مواقفًا مؤيدة للنظام الروسي، وهو أمر لو حدث فعليًا من شأنه أن يؤثر سلبيًا في وحدة الصوت الأوربي في مواجهة سياسات بوتين.

ولكن في المقابل، فإن الأمر في جانب كبير منه يرتبط بقدرة التيارات اليمينية وخاصة التي ستتولى تشكيل حكومات على الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين، وتنفيذ أجندة برامجها الانتخابية التي تم على أساسها انتخابها، وقدرتها كذلك على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية التي تواجهها النظم والشعوب الأوربية، وخاصة مع تفاقم تداعيات أزمة كورونا والأزمة الأوكرانية على المستويات كلها.

المصدر : الجزيرة مباشر