أكتوبر.. عندما يتحول إحساس النصر إلى عسل مُر

نصر أكتوبر

 

تتفجر في وجدانك مشاعر الغضب والحزن والألم عندما تطالع أخبار عقد اتفاقات شركة نيوميد الصهيونية لتملك أصول في قطاع الغاز والنفط المصري بالتوازي مع احتفال المصريين بالانتصار على الكيان الصهيوني في حرب الساعات الست أكتوبر/تشرين الأول 1973.

تختلط داخلك المشاعر: كيف وصل بنا الحال من قمة النصر الذي صنعته بطولة المقاتل المصري على مدار سبع سنوات على جبهة القناة بدأت بعد 21 يوما من هزيمة يونيو/حزيران 1967، وبالتحديد في الأول من يوليو/تموز، بمعركة رأس العش عندما حاولت مدرعات إسرائيلية احتلالها فواجهتها قوة من الصاعقة المصرية ونجحت في صد الاعتداء ليبدأ بعدها مشوار حرب الاستنزاف التي وصلت بنا إلى تلك البطولات للمقاتل المصري في أيام حرب أكتوبر لتصنع ملحمة مصرية خالدة على مدار التاريخ.

لتواريخ الانتكاسة دلالة لا يخطئها إلا متجاهل أو متآمر، فتوقيت التوقيع على دخول شركة إسرائيلية لشراء أصول مصرية تعني ببساطة تعمّد توصيل إحساس الانكسار في ذكرى النصر، وفي مشوار طويل من التراجع المصري والعربي بدأ بقبول اتفاقات فض الاشتباك في 24 أكتوبر 1973، لتتوالى التراجعات بمشاريع السلام المزيفة وزيارة أنور السادات للقدس المحتلة والاعتراف بالكيان الصهيوني، الذي لم نعترف به بعد الهزيمة وظل أكثر من نصف سكان العالم لا يعترفون باحتلاله لأرضنا العربية في فلسطين.

لا عجب الآن أن كثيرا من دول العالم لا تعترف بهذا الكيان في مقابل عدد قليل جدا من الدول العربية التي لا تزال على قاعدة (اللاءات الثلاث) بمؤتمر الخرطوم في أغسطس/آب 1967 “لا صلح لا اعتراف لا تفاوض”.

كانت البداية التي أجاد صناعتها وزير الخارجية الأمريكي هنري كسينجر ورئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون مع أنور السادات وزيارته للقدس واتفاقه المنفرد مع الكيان الصهيوني الذي أحدث انقساما عربيا واسعا بعد وحدة كبرى عقب النصر.

الكيان يمرح في وطن ممتد

تتوالى أنشطة الكيان الصهيوني لتمتد علاقاته من قلب القاهرة على شاطئ النيل غربا إلى حدود المحيط في المغرب وشرقا إلى سواحل الخليج، بينما توغلت في مصر منذ سنوات السبعينيات وخلال عصر مبارك في مجالات عديدة كان أهمها وأشهرها مجال الزراعة التي خربها وجود الخبراء الصهاينة فيها.

ظهر في تلك الآونة عدد من رجال الأعمال والصحافة والثقافة الذين يباهون بعلاقاتهم مع الكيان الصهيوني، ويبررون الاستسلام للأمر الواقع بوجود الكيان.

تلك النظرية اعتمدت على أن سنوات الحرب هي السبب في التدهور الاقتصادي، وها هو يمر نحو نصف قرن على آخر الحروب كما ادعى أنور السادات، وتعاني مصر الآن أكبر أزمة اقتصادية في تاريخها.

يتناسى دعاة الاستسلام للاحتلال أن مصر لم تشهد أزمة مثل هذه في سنوات الحرب، بينما رحل جمال عبد الناصر في عام 1970 ولدى مصر ديون عسكرية للاتحاد السوفيتي السابق بقيمة نحو 1.5 مليار دولار تم إسقاطها.

رحل السادات بعد 11 عاما من الحكم والديون قرابة 12 مليار دولار، بينما في سنوات السلام ومنذ مبارك حتى الآن بلغت الديون أكثر من 157 مليار دولار، بالإضافة إلى الديون الداخلية الضخمة، وتشهد مصر في السنوات التسع الماضية حتى الآن أعنف أزمة اقتصادية على مدار تاريخها.

النصر المسروق

خلال سنوات عملي التليفزيوني، كنت متحمسا جدا لهؤلاء الذين صنعوا النصر ببساطة ثم عادوا إلى أعمالهم في الجامعات والمصانع والأراضي الزراعية.

في عام 1994، قدّمت سهرة وثائقية عن الذين أمضوا السنوات السبع على الجبهة من كل طوائف الشعب المصري وخاصة خريجي الجامعات في عام الهزيمة 1967، مفاجآت في البطولة توقعت بعضها، ولكن ما صنعه هؤلاء لا يمكن لبشر تخيله، كما لا يمكن تصور أحلام المقاتلين في تحرير كامل الأرض العربية.

اختُتمت السهرة بالعبور أي بعد يومين من بداية الحرب، وكان هذا من الطبيعي لما حدث قبل نهاية مساء الثامن من أكتوبر عندما قرر السادات تطوير الحرب الذي أدى إلى الثغرة ومنها إلى اتفاقات فض الاشتباك والمسيرة الطويلة من التراجع قادها صاحب قرار الحرب، وكان من نتيجتها سرقة النصر كما عبّر الكثير من المصريين عن “الذين عبَروا والذين هبروا وسرقوا البطولات”.

لا بد هنا أن أذكر هذا الجهد الذي يبذله سنويا السفير معصوم مرزوق ضابط الصاعقة في حرب أكتوبر، الذي كان مِن أوائل مَن عبروا قناة السويس، وهو يذكّرني بملامح بطولية لجنود مصريين عاديين أذهلته بطولاتهم.

لعلنا نتذكر بطولات محمد عبد العاطي (صائد الدبابات) الذي كان يتنافس مع رفاقه على تدمير أكبر عدد من دبابات العدو بالصواريخ المحمولة على الأكتاف.

نفوس مهزومة تحتفل بالنصر

هذا التعبير أبحث عنه منذ أيام، ربما ليس بهذه الدقة ولا الروعة فيه، ولكنه قريب من هذا الإحساس، لأجده لدى صديقي الفنان التشكيلي والروائي المبدع عبد العزيز السماحي، وكأن الفنان وحساسيته واستشرافه للمستقبل يصك تعبيرا عن واقعنا.

إنه تعبير عن النفوس التي عاشت أحلاما كبرى في أكتوبر صنعها آباء وأجداد عظام ثم تهاوت على عتبات السياسة، وبفعل نفوس ضعيفة وساسة غير مدركين لمسيرة التاريخ ولا قواعد المستقبل.

ثم جاءت بعدها ثورة يناير عام 2011، لتصنع قمة الأحلام، وفي هذا لا يمكن نسيان ما حدث عشية التاسع من سبتمبر/أيلول من العام ذاته، حينما استطاع ثوار يناير طرد سفير الكيان الصهيوني ومعه كل أفراد السفارة من القاهرة.

تصاعدت أحلامنا مرة أخرى إلى عنان السماء، ليعود ثانية الساسة الذين أزعجتهم طموحات الثوار لينقضوا على يناير ويحبسوا أبطالها في السجون، أو في ذواتهم، ويفتحوا أبواب الوطن للكيان الصهيوني ليمرح في كل بقاعه.

وتبقى الأسئلة: هل يتوقف التاريخ؟ هل فعلا النفوس مهزومة؟ هل يطمئن من سرق أكتوبر ويناير وينام قرير العين مرتاحا لسكون المصريين؟

قد يتخيل من سرق واعتقل ويحاول قتل الروح أن كتاباتنا عن المرارة في الحلق هزيمة أو أن تعبير فنان مثل السماحي انكسار، لكن هذا تفسير صاحب الأفق الضيق.

إن الاقرار بواقع مثل هذا ليس بداية طريق العودة والانتصار بل منتصف الطريق، إن التاريخ لا يتوقف عند نقطة واحدة، فمن علا سيهبط ومن انتصر سيُهزم ومن خدع سيُخدع، فلا يهنأ محتل ولا مستبد ولا ظالم حتى وإن بدا يتصنع الشجاعة، فخوفه ليس خافيا على الحالمين بالنصر، ولعله قريب.

المصدر : الجزيرة مباشر