أزمة الغاز الروسي: البدائل الاستراتيجية الأوربية

مع استمرار تداعيات الأزمة الأوكرانية وعدم وجود مؤشرات حقيقية على قرب انتهائها، ثم إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضم أربعة أقاليم من الأقاليم الأوكرانية بشكل رسمي إلى الاتحاد الروسي في 30 سبتمبر/ أيلول 2022، بما يعادل 20% من مساحة أوكرانيا، بعد إضافة شبه جزيرة القرم إلى هذه الأقاليم، يزداد ملف الطاقة في أوربا تعقيداً، خاصة وأن أوربا كانت تعتمد خلال حتى نهاية العام الماضي (2021) على روسيا الاتحادية في سد 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، أي نحو 185 مليار متر مكعب سنوياً.

ومع دخول أوربا فعلياً شهور شتاء تمتد لنحو خمسة أشهر (أكتوبر ـ فبراير) تزداد أزمة الطاقة تعقيداً في ظل مناخ شديد الصعوبة، وتحولات مناخية كبيرة تشهدها دول القارة، للدرجة التي دفعت وزير الطاقة في أهم دولة أوربية، وهي ألمانيا، للتصريح علناً: “نحن بصدد مواجهة شتاء حرج للغاية”.

وهنا يكون السؤال الكبير ما هي البدائل الأساسية التي يمكن أن تعتمد عليها الدول الأوربية في توفير احتياجاتها من الطاقة، وخاصة من الغاز خلال شهور شتاء 2022 ـ 2023؟

روسيا الشريك الرئيس لأوربا في ملف الطاقة.. ولكن!!

خلال العقدين الأخيرين تعددت الخطوط التي اعتمدت عليها القارة الأوربية لنقل الغاز الروسي إلى أراضيها، ومن بين هذه الخطوط، خط نورد ستريم 1 والذي يمكن من خلاله نقل 55 مليار متر مكعب سنوياً، وتم تعليق الضخ منه في 31 أغسطس 2022 بدعوى الصيانة، وخط نورد ستريم 2 الذي رفضت ألمانيا اعتماد العمل من خلاله بعد بدء حرب أوكرانيا في فبراير 2022، وخط يمال أوربا، وقدرته 33 مليار متر مكعب سنوياً، وتم إغلاقه بسبب العقوبات على روسيا، وخط أنابيب الصداقة الذي كان يمر عبر أوكرانيا وقدرته 32 مليار متر مكعب سنوياً، ثم خط ترك ستريم الذي يمر عبر الأراضي التركية وقدرته 31.5 مليار متر مكعب، وكذلك خط بلو ستريم الذي يمر عبر البحر الأسود إلى تركيا وقدرته 16 مليار متر مكعب سنوياً.

وكانت أكثر الدول الأوربية اعتماداً على الغاز الروسي هي ألمانيا وإيطاليا، تليها دول شرق أوربا، لكن تراجعت شحنات الغاز الروسي بنسبة 70% في يوليو 2022 مقارنة بما كانت عليه في يوليو 2021، حيث أوقفت روسيا الشحن بالكامل إلى ما أسمتهم الدول غير الصديقة، مثل بلغاريا وبولندا وفنلندا وهولندا والدانمرك ولاتفيا، وفي منتصف سبتمبر 2022 انخفضت نسبة الواردات من روسيا إلى 9% فقط من إجمالي ما كانت تستورده هذه الدول من روسيا.

أوربا والبدائل قصيرة المدى

في إطار البحث عن بدائل سريعة، لاحتواء أزمة الطاقة الروسية، اتجهت بعض الدول الأوربية إلى عدد من السياسات الترشيدية للاستهلاك والداعمة للمواطنين في مواجهة ارتفاع الأسعار، ومن ذلك قامت دولة التشيك التي كانت تعتمد بنسبة 98% على الغاز الروسي، بوضع سقف لأسعار الكهرباء والغاز لحماية المواطنين، وتوقفت لاتفيا نهائياً عن استخدام الغاز الروسي منذ يوليو 2022، عبر أدوات بدائل سريعة وسياسات حمائية، وقامت المجر التي كانت تعتمد بنسبة 80% على الغاز الروسي، بتقليل استخدام الغاز الطبيعي في المؤسسات العامة بنسبة 25%، لكنها غردت خارج سرب الاتحاد الأوربي عندما قام وزير خارجيتها بزيارة إلى روسيا وطلب إمداد بلاده بـ 700 مليون متر مكعب من الغاز.

وفي فرنسا أعلنت عن خطة لترشيد استهلاك الكهرباء، شملت إطفاء أنوار أشهر معالمها السياحية، برج إيفل، وفي ألمانيا، أكبر اقتصادات أوربا، وأكبر مستورد للغاز الروسي، تم الإعلان عن تمديد عمل المفاعلات النووية لدعم امدادات الكهرباء، وإصدار قرار بخفض استهلاك الكهرباء في العاصمة برلين بنسبة 10%. كما أعلنت وزارة الاقتصاد الألمانية، وضع يدها على 3 مصافي نفط مملوكة لروسيا في البلاد، لضمان أمن الطاقة، قبل أن يدخل قرار حظر توريد النفط من روسيا حيز التنفيذ العام المقبل، كذلك قام المستشار الألماني شولتز بجولات خارجية لعدد من الدول المنتجة للطاقة مثل كندا والسعودية والإمارات وقطر، لإجراء مفاوضات وتوقيع اتفاقيات من شأنها تعزيز الواردات إلى ألمانيا.

واتجه الاتحاد الأوربي إلى إقرار حزم من الإجراءات الحمائية، منها مناقشة اقتراح بفرض ضريبة مؤقتة على شركات الطاقة بنسبة 33% من أرباحها الإضافية خلال المرحلة الراهنة، بهدف دعم المواطنين الأوربيين والبحث عن مصادر بديلة للطاقة.

البدائل الاستراتيجية بين الإمكانية والقدرة والتحدي

أحد أهم البدائل الاستراتيجية لدول القارة الأوربية للخروج من أزمة الطاقة تتمثل في زيادة الواردات من الغاز المسال، ويبلغ حجم الإنتاج العالمي من الغاز المسال للعام 2022 تبلغ 455 مليون طن، 70% منها تم بيعها فعلياً بعقود طويلة الأجل، أي ما يعادل 320 مليوناً، وتتبقى 30% تُسمى بالسوق الفورية، تعادل 135 مليوناً تحتاج منها أوربا 118 مليوناً، وأهم الدول المصدرة للغاز المسال في العالم هي الولايات المتحدة، قطر، أستراليا، وهي دول ترتبط مع أوربا بعلاقات جيدة واستراتيجية، وبالتالي يمكن للدول الأوربية توفير ما تحتاج إليه فرضياً من الغاز المسال، لكن أوربا لا تمتلك البنية التحتية الكافية لاستيراد وتخزين الغاز المسال نظراً لاعتمادها خلال العقود الماضية على الغاز الطبيعي، وإن كانت ألمانيا وهولندا، وغيرها من الدول الأوربية بدأت فعلياً منذ يوليو 2022 في تجهيز محطات لاستقبال وتخزين الغاز المسال.

أوربا وتنويع المصادر وتعزيز الشراكات

وتراهن أوربا على عدد من الدول الأساسية لتوفير احتياجاتها الاستراتيجية من الغاز، في مقدمتها الولايات المتحدة، ثاني أكبر دول العالم إنتاجاً، والتي أعلنت عن عدة إجراءات عاجلة، لتوفير احتياجات أوربا من الغاز الطبيعي وكذلك إطلاق عدد من المشروعات الاستراتيجية منها مشروع غولدن باس في تكساس باستثمار مشترك بتكلفة 10 مليارات دولار، بين شركة غاز قطر بنسبة 70% وأكسون موبيل بنسبة 30%، وبعدها تأتي كندا التي تحتل المركز الثالث عالمياً، وأعلنت استعدادها الكامل لرفع الإنتاج لسد احتياجات أوربا.

هذا بجانب النرويج التي تحتل المركز السادس عالمياً في إنتاج الغاز الطبيعي، وأصبحت فعلياً أكبر مصدر للغاز للدول الأوربية، ومن المتوقع أن تنتج النرويج نحو 122 مليار متر مكعب من الغاز هذا العام، بزيادة قدرها 8% عن عام 2021، وربما يتجاوز الرقم القياسي المسجل قبل خمس سنوات، وقد أعلن مكتب الإحصاء النرويجي إن إيرادات الغاز الطبيعي ارتفعت أربع مرات مما كانت عليه في يوليو 2022 مقارنة بما كانت عليه العام الماضي، وارتفع حجم الغاز المباع بنسبة 5.7% والنسبة قابلة للزيادة.

كذلك اتجهت الدول الأوربية إلى تعزيز المفاوضات والحوارات الاستراتيجية مع دولة قطر، التي تحتل المركز الخامس عالمياً، للاتفاق على زيادة حصتها في السوق الأوربية، وأعلنت قطر عن اعتزامها رفع انتاجها بنسبة 30% وإنتاج 100 مليون طن بحلول عام 2024، وصولاً إلى 126 مليوناً عام 2027.

وتأتي الجزائر كأحد أهم البدائل الاستراتيجية، حيث يوجد في أراضيها أكبر احتياطيات الغاز الخام في العالم، ويقدر بنحو 2400 مليار متر مكعب، تنتج 100 مليار سنوياً، 50% من صادراتها تذهب إلى إيطاليا وإسبانيا عبر خطوط أنابيب، كما يتم تصدير الغاز المسال عبر السفن إلى تركيا وفرنسا. وتعددت زيارات المسؤولين الأوربيين وخاصة من إيطاليا وفرنسا، حيث زارها الرئيس الفرنسي ماكرون في 25 أغسطس 2022، للبحث في زيادة صادراتها إلى أوربا، لكن تحدي جاهزية البنية التحتية في الجزائر، والتوتر السياسي بينها وبين فرنسا وإسبانيا وكذلك علاقاتها الجيدة مع روسيا، تحكم مستقبل ومسار حجم هذه الصادرات.

كما اتجهت أوربا إلى زيادة صادراتها من دول منطقة شرق المتوسط ووقعت اتفاقاً ثلاثياً مع مصر وإسرائيل في 15 يونيو 2022 يمتد 3 سنوات قابلة للتجديد تلقائيا لمدة عامين، وينص على نقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى محطات الإسالة في مصر (إدكو ودمياط في الشمال)، ثم يُشحن إلى السوق الأوربية.

هذا بجانب اتجاه الدول الأوربية إلى تعزيز اتفاقياتها مع عدد من الدول الأفريقية في مقدمتها نيجيريا التي تنتج نحو 50 مليار متر مكعب سنوياً، وليبيا 11 مليار متر مكعب، وغينيا الاستوائية 6.2 مليار متر، وموزمبيق 5.6 مليار وكلها مصادر تحتاج لتوفير استقرار سياسي أولاً وبنية تحتية قادرة على زيادة الإنتاج وهو ما يعني أنها تُوفر حلولاً جزئية، ولكنها مهمة على المدى البعيد.

تساؤلات وتوقعات

في إطار الإجراءات قصيرة المدى والتوجهات بعيدة المدى، في ظل السياسات الترشيدية والحمائية التي أعلنت عنها الدول الأوربية، وفي ظل السعي نحو تنويع مصادر الصادرات، هل سيمر شتاؤها القادم دون أزمات كبرى، وتنجح في الخروج من مظلة الهيمنة الروسية؟ أم تواجه شتاءً قاسياً يؤدي لأزمات أكبر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؟

من وجهة نظري الشخصية أن أوربا قادرة على مواجهة هذا التحدي بنسبة تتراوح بين 80 و85% إلا أنها تصطدم بعدد من التحديات والصعوبات من بينها حجم الدعم الأمريكي للدول الأوربية اقتصادياً وطاقوياً، وتعاطيه مع الأزمة الأوربية بمنطق الداعم والشريك وليس منتهز الفرص لمزيد من الهيمنة، ومن ناحية ثانية درجة تماسك دول الاتحاد الأوربي وعدم ظهور حالات تغرد خارج السرب، وتسعى لمصالحها الذاتية على حساب الموقف الأوربي الموحد، ومن ناحية ثالثة حجم التأييد والدعم الشعبي للسياسات والإجراءات الحكومية، وخاصة في ظل تنامي وصعوب التيارات اليمينية لسدة الحكم في أوربا، وما يمكن أن تتبناه هذه التيارات من توجهات جديدة ليس فقط تجاه الحرب في أوكرانيا، ولكن أيضاً تجاه العلاقة مع روسيا، وكذلك تجاه البقاء في الاتحاد الأوربي من الأساس.

المصدر : الجزيرة مباشر