جماعة “محمود أفندي”.. كيف اخترقت المجتمع التركي؟!

محمود أفندي وسط أتباعه "صورة ارشيفية"

رغم شهرة تركيا في العالم العربي والإسلامي بأنها دولة علمانية وفق ما ينص عليه دستورها، وما نراه في شوارعها ووسائل إعلامها من مظاهر التغريب والميل إلى النهج الأوربي في نمط الحياة اليومية لمواطنيها، فإن لتركيا وجهًا آخر يختلف كل الاختلاف عن تلك الصورة النمطية التي تبدو في أذهاننا جميعا حينما يذكر اسمها، هذه الصورة تتمثل في الجماعات الصوفية المنتشرة بكثرة في المجتمع التركي، ولا تعرف الغالبية منا عنها الكثير.

هذه الجماعات الصوفية ذات التأثير الكبير في رسم الخريطة السياسية للبلاد، تقدر أعداد منسبيها بالملايين، ويتم توجيههم بالتصويت لصالح الحزب الذي تراه قيادات تلك الجماعات مؤهلا لقيادة البلاد والعباد، وقادرا على الحفاظ على هويتها الإسلامية، وموروثها الاجتماعي والثقافي المرتبط بتلك الهوية.

من هو محمود أفندي؟

أهم هذه الجماعات التي تستحق عن جدارة أن نوليها اهتمامًا بالغًا، هي جماعة محمود أفندي، أكبر الجماعات الصوفية التركية عددًا، وأكثرها تأثيرًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. وقد تأسست هذه الجماعة على يد الشيخ محمود أسطى عثمان أوغلو الذي ولد عام 1929 في مدينة أوف على شاطئ البحر الأسود بمحافظة طرابزون.

كان لنشأة الشيخ محمود الدينية المحافظة تأثير كبير على نهج حياته، إذ حفظ القرآن وهو في السادسة، وتعلم العربية وفنونها من نحو وصرف وبلاغة، كما تعلم اللغة الفارسية، ثم درس القراءات وعلوم القرآن والحديث.

وقد حاز إجازة في العلوم النقلية والعقلية وهو في السادسة عشرة من عمره، وذلك بعد أن أتم دروس العلوم الشرعية من علم الكلام والتفسير والفقه وأصوله، ليعين بعد ذلك إماما لمسجد إسماعيل آغا في إسطنبول عام 1954، حيث ظل يعمل به على مدى اثنين وأربعين عاما متواصلة حتى أُحيل إلى التقاعد عام 1996. قام خلالها بجذب الكثير من الأتباع والمريدين والطلاب، واتسع نطاق تأثيره ليشمل كافة أرجاء المحافظات التركية، بعد أن خصص ثلاثة أسابيع سنويا للقيام بجولة في المدن التركية لتعليم الناس، ودعوتهم للعودة إلى هويتهم الإسلامية، والاستماع لمشاكلهم والمساعدة في حلها؛ لتنطلق دعوة الشيخ من المحلية إلى العالمية بعد قيامه بعدة جولات في العديد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وآسيا الوسطى حيث أصبح له الآف من المحبين.

مكائد ومؤامرات الجمهوريين ضد الشيخ وجماعته

والشيخ محمود أفندي صوفي الهوى، نقشبندي الطريقة، حنفي المذهب، أخذ علومه عن أهم وأعظم شيوخ الطريقة النقشبندية، يقوم منهجه على الدعوة إلى العودة إلى الله، والبعد عن كافة أشكال ومظاهر التغريب التي استفحلت في المجتمع التركي، مستخدمًا لهذا الهدف أسلوبا ليّنًا سهل الفهم على جميع طبقات المجتمع بمن فيهم السياسيون والمسؤولون في الدولة، ساعيًا إلى تعليمهم التفريق بين الحق والباطل، والعمل بموجب النص القرآني “الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر”.

زيادة شعبيته وارتفاع أسهمه بين المواطنين تسبّبَا في تعرضه للعديد من المضايقات والافتراءات من جانب الجمهوريين الذين كانوا يسيطرون على مقدرات البلاد خاصة بعد انقلاب 1960؛ إذ حكم عليه الانقلاب العسكري بالنفي إلى مدينة اسكي شهير وسط الأناضول، لكن وقوف مفتي إسطنبول آنذاك صلاح الدين قايا إلى جواره ومساندته له كان له تأثير كبير في إلغاء القرار، وعقب انقلاب 1980 تم اتهامه بالضلوع في حادثة اغتيال مفتي منطقة اسكودار عام 1982، إلا أن المحكمة حكمت ببراءته من ذلك الاتهام بعد سنتين ونصف.

لم تتوقف سلطات الانقلاب عن محاولات الكيد للشيخ، الذي كان نطاق تأثيره يتسع وتزداد شعبيته كلما كالوا له الاتهامات ولفقوا له المؤامرات. وفي عام 1985 تمت إحالته إلى محكمة أمن الدولة بتهمة تهديده لنهج العلمانية المنصوص عليه دستوريًّا في خطبه ودروسه، إلا أن المحكمة حكمت ببراءته.

وقد توالت المكائد والمؤامرات على الشيخ وتلاميذه، إذ تم اغتيال الشيخ خضر على مراد أوغلو تلميذه وصهره داخل مسجد إسماعيل أغا عام 1998، وهي الحادثة التي تركت آثارها على الشيخ فترة طويلة، ليتلقّى بعدها ضربة كبيرة تمثلت في عملية اغتيال الشيخ بيرام علي أوزتورك أكبر طلابه وصهره ومعيد درسه عام 2006 أثناء قيامه بالتدريس داخل جامع إسماعيل أغا أيضا، كما تعرض محمود أفندي نفسه لمحاولة اغتيال عام 2007 بإطلاق الرصاص على سيارته، ولما باءت تلك المحاولة بالفشل، لاحق المتآمرون الشيخ داخل المستشفى الذي يعالج فيه، بمحاولة أخرى بإطلاق الرصاص عليه هناك لكنه لم يصب بأذى.

رغم قيود العلمانية جيل جديد من حفظة القرآن

نجح محمود أفندي خلال ما يقرب من خمسين عاما في تخريج جيل جديد من الأتراك الحافظين للقرآن الكريم، الدراسين لعلومه، الذين يتولون حاليا مهمة تحفيظ وتعليم مئات الآلاف من الطلاب القرآن وعلومه، ونشر الوعي الإسلامي بين ملايين الأتراك في مختلف أنحاء تركيا. نصف قرن من العمل الدؤوب لم يتنازل خلاله الشيخ ولم يفرط في أصل من أصول الشريعة الإسلامية، ولم يتغاض عن ظلم وقع، ولم ينافق أو يداهن أحدًا من رجال السياسية من أجل تحقيق منفعة أو مصلحة، الأمر الذي رفعه إلى مكانة متميزة لا ينافسه فيها أحد من معاصريه، ودفعت الملايين من الأتراك إلى الانضمام لجماعته، والولوج إلى عالمه الصوفي المفعم بالتقوى والروحانيات، البعيد كل البعد عن مباهج الحياة المادية وتأثيراتها السلبية على النفس البشرية.

الهوية الخاصة لجماعة محمود أفندي

يتميز أعضاء جماعة محمود أفندي الذين يتمركزون في حي الفاتح بإسطنبول، وفي مدينتي طرابزون وقونيا بأزيائهم الخاصة التي تنم عن هويتهم، والتي يرتديها الجميع صغارا وكبارا، رجالاً ونساءً، حيث ترتدي النساء والفتيات زيا أسود اللون لا يُظهر من الوجه سوى العينين والأنف فقط يسمى بالتركية “شرشف”، وهو يشبه إلى حد كبير زي النساء الإيرانيات المسمى ” الشادور”، أما الرجال فيرتدون ملابس فضفاضة وسراويل عريضة، ويطلقون لحاهم، ويغطّون رؤوسهم.

وتنتهج الجماعة نهجا رزينا هادئا في كافة تعاملاتها، وترفض العنف رفضا مطلقا، رغم كل ما تعرضت له من مؤامرات ومضايقات، وما واجهته من محاولات التضييق على مؤسسها وأعضائها منذ خمسينيات القرن الماضي. وقد كان لهذا النهج تأثير مباشر في علاقات رجال الدولة والساسة الأتراك مع مؤسس الجماعة محمود أفندي، إذ لم يجد أيّ منهم حرجا في التواصل معه، وتكرار زيارته علنا طلبا لمشورته حينًا أو لدعمه خلال فترات الانتخابات أحيانا أخرى.

فالرجل لا توجد مآخذ على سلوكه ولا على سلوك أتباعه الذين يقدرون بالملايين، فرغم كثرتهم لم يلجؤوا إلى العنف في تعاملاتهم مع الدولة ردًّا على ما تعرضوا له، كما أنهم كتلة تصويتية تتخطى 3%، لا يمكن تجاهلها أو التفريط فيها.

المذهب الحنفي الأساس العقدي لجماعة محمود أفندي

تتبع الجماعة المذهب الحنفي كاملا بكل دقة، فهم لا يأكلون من صيد البحر سوى السمك فقط، كما يحرمون المسح على الجوارب أثناء الوضوء ولو لضرورة، ويحللون لبس الحرير ما لم يلامس الجسد، واستخدام آنية من الذهب في وضع الطعام ما لم تلامس تلك الآنية الفم مباشرة. يتحدث أعضاء الجماعة العربية الفصحى بطلاقة، حيث يبدأ تدريسهم إياها منذ الصغر، ثم يتعلمون علومها من نحو وصرف وبلاغة.

تعتمد الجماعة في تصريف أمورها على استغلال أموال الأوقاف، في الصرف على المدارس التي تديرها، حيث تؤسس لطلابها حياة مختلفة، وبيئة دراسية خاصة تترك آثارها على نفسيتهم وطريقة استقبالهم للعلوم الشرعية، التي تتحول مع الوقت إلى منهج حياة.

وخلال فترة الدراسة تتولى مشيخة الجماعة مهمة الصرف كاملا على كافة احتياجات الطلاب من كتب دراسية وملابس وطعام وشراب، حتى يتم الطالب دراسته كاملة، وتربيته وفق منظور الجماعة لنمط الحياة الذي يجب أن يتبعه أعضاؤها، ثم يعين بعد ذلك في إحدى المدارس الدينية التابعة لهم أو في أحد المشروعات الإنتاجية الوقفية الخاصة بهم. ولا تفرق هذه المدارس بين طلابها فهي مدارس تستقبل الطلاب من الجنسين، وتمنحهم نفس القدر من العلم.

وفق هذه الرؤية يجد المنتمي لجماعة محمود أفندي نفسه جزءًا أساسيًّا من جسد الجماعة، التي تقف إلى بجانبه وتدعمه وتمده بكل سبل العيش، الأمر الذي يمنحهم قوة وقدرة على الاستمرار في مجتمع ينتهج النهج العلماني، ويزيدهم صلابة في مواجهة المحن التي يتعرضون لها، ولمَ لا وهم جميعا يشعرون في أعماقهم بأنهم أحفاد آق شمس الدين شيخ السلطان محمد الفاتح قاهر البيزنطيين وفاتح إسطنبول.

المصدر : الجزيرة مباشر