25 يناير.. الثورة الكاشفة

لا يساورني شك بأن كل المحاولات لتشويه ثورة 25 يناير وطمس مكتسباتها ستبوء بالفشل، وسترتد في وجه أصحابها، ذلك أن تلك الثورة لم تكن شأنًا عابرًا، بل كانت واحدة من الأحداث الكبرى في التاريخ المصري قديمه وحديثه، بحكم حجم المشاركة الجماهيرية الواسعة فيها، وبحكم بساطة وعدالة مطالبها (عيش..حرية..عدالة اجتماعية..كرامة إنسانية) وهي مطالب لا تزال قائمة ولن يتراجع الشعب عنها رغم ما يعانيه من قمع.

وبحكم التضحيات الكبيرة التي صاحبت الثورة وسبقتها ولحقتها، فإنها لم تكن وليدة اللحظة بل جاءت متوّجة لنضالات ممتدة ضد الحكم الاستبدادي في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي، بلغت أوجها منذ العام 2004 بتأسيس حركة كفاية التي تصدت بشكل علني وقوي للتوريث والتمديد، ثم التعديلات الدستورية الشكلية التي غيرت طريقة اختيار رئيس الجمهورية من الاستفتاء على شخص واحد إلى الانتخاب بين أكثر من مرشح، وهو ما جرت وفقًا له الانتخابات الرئاسية في 2005، ثم كانت محطة الانتخابات البرلمانية أواخر 2005 أيضًا التي أوصلت أكبر كتلة معارضة للبرلمان رغم عمليات التزوير التي تصاعدت في المرحلتين الثانية والثالثة، ثم كانت محطة معركة استقلال القضاة في 2006 وما صحبها من مظاهرات شعبية داعمة، والتعديلات الدستورية الجزئية الجديدة في 2007، ثم إضراب عمال المحلة في 6 أبريل 2008 الذي ولِدت من رحمه حركة 6 أبريل، وانفجار الاحتجاجات الفئوية في 2009، وصولًا إلى تأسيس الجمعية الوطنية للتغيير في فبراير 2010 التي أطلقت بيان المطالب السبعة للتغيير ووقّع عليه أكثر من مليون مصري رغم عمليات الترهيب الأمني، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي تزوير الانتخابات البرلمانية في 2010 لمنع فوز مرشحي المعارضة، مما اضطر نوابها القدامى إلى تأسيس البرلمان الموازي الذي سخر منه مبارك بقوله “خليهم يتسلّوا”، وما لحق ذلك من تصاعد عمليات التعذيب في مراكز الشرطة وكان أيقونتَها الشابُّ الليبرالي خالد سعيد، ومِن بعده الشاب السلفي سيد بلال، اللذان كانا شرارة الثورة.

ليست نبتًا طفيليًّا

هذه المسيرة النضالية الممتدة تؤكد أن ثورة يناير لم تكن نبتًا طفيليًّا، بل شجرة جذورها ضاربة في التربة المصرية، ويستحيل اقتلاعها، وأن جذوتها لا تزال مشتعلة تحت الرماد (أرى تحتَ الرمادِ وميضَ جمرٍ.. ويوشكُ أن يكونَ له ضِرامُ). ولأنها متجذرة إلى هذا الحد، ولأن مبادئها وشعاراتها وهتافاتها أصبحت جزءًا أساسيًّا من ثقافتنا وحياتنا فإنها تنتهز الفرص لتظهر على السطح كما حدث مؤخرًا في مظاهرات موظفي ماسبيرو وسكان الحيَّين السادس والسابع بمدينة نصر، ومِن قبلهم سكان جزيرة الوراق، ومظاهرات أصحاب الجلابيب في أرياف مصر.

وإذا كانت ثورة 25 يناير منشئة لحالة عالية من الوعي لا تزال تنمو رغم القمع، ومنشئة لأفضل دستور منذ دستور 1923 الذي توّج نضال ثورة 1919، ومنشئة لأول حكم مدني (لمدة عام) بعد 60 سنة من حكم الضباط، فإنها كاشفة أيضًا للكثير من المؤامرات والنزوات، ونقص الحكمة والخبرة، والصبيانية السياسية أحيانًا، كما إنها كانت كاشفة للخارطة السياسية والمجتمعية، ولقوى ومراكز صنع القرار والتأثير فيه.

من أبرز الدروس التي كشفتها يناير أن مثلث القوة والتأثير في مصر تتكون أضلاعه من التيار العسكري والدولجي، والتيار الإسلامي وفي القلب منه جماعة الإخوان، والتيار العلماني بشقيه الليبرالي واليساري. وحين يتحالف ضلعان منه ينتصران على الثالث، فقد كان النصر حليفًا لتحالف الضلعين الإسلامي والعلماني في الجولة الأولى للثورة، وحين تحالف الضلعان الإسلامي والعسكري حققا مكاسب على حساب الضلع العلماني، وحين تحالف الضلعان العسكري والعلماني حققا مكاسب على حساب الضلع الإسلامي، ولن تشهد مصر استقرارًا كاملًا إلا بحوار وطني متكافئ بين هذه الأضلاع الثلاثة، والوصول إلى صيغة مقبولة من الجميع لحكم مصر، تضع المبادئ الأساسية (الثوابت الوطنية والدستورية) وتترك الجميع يتنافسون في ما عداها.

ضحالة الخبرة السياسية

كشفت يناير ضحالة الخبرة السياسية للقوى المدنية بشقيها الإسلامي والعلماني، وهو ما أدى إلى فشلهما في تحقيق توافق وطني يحمي تلك الثورة، ويتعاون لتحقيق مطالبها، ويكون قادرًا على صد الهجمات المتتالية ضدها، ولا يمكن المساواة هنا بين الجميع في تحمّل هذه المسئولية، فخطأ الكبير كبير، وخطأ الصغير صغير.

كشفت الثورة أيضًا أن هناك مَن لم يكن مؤمنًا حقًّا بها وبمبادئها، لكنه كان باحثًا عن مكانة افتقدها في السنوات السابقة، ولذلك فإنه ظل يبحث عن هذه المكانة مع خصوم الثورة حين لوّحوا لهم ببعض الفتات من مناصب بسيطة أو حتى حضور إعلامي وغيره. لقد كان هؤلاء شوكة في ظهر الثورة منذ بداياتها، ولعلنا لا ننسى مواقفهم المهزوزة عند كل محطة من محطات الثورة في أيامها الأولى وترحيبهم بخطاب مبارك قبل “موقعة الجمل” ودعوتهم إلى الانصراف من الميدان، وقبولهم المبكر للحوار مع أحمد شفيق وعمر سليمان.

كشفت الثورة مطابخ صنع القرار في مصر وقوى النفوذ والتأثير، فقد جرى كثير من المؤامرات والمفاوضات والضغوط في الغرف المغلقة بعيدًا عن عيون الثوار، بين مراكز القرار وتحديدًا الرئاسة والمؤسسة العسكرية والمخابرات والحزب الوطني الحاكم والإعلام الرسمي وغيرها، وظهرت تلك التفاصيل لاحقًا في تصريحات صحفية أو في مذكرات تاريخية لبعض صناع القرار أو الشهود المقربين مثل أسامة هيكل وياسر رزق وعبد اللطيف المناوي، ومذكرات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون وتسريبات بريدها الإلكتروني التي رصدت الكثير من التطورات والتفاصيل في المطابخ الخلفية لحظة بلحظة. لكن المبهج في تلك التفاصيل جميعها أن العنصر الثابت فيها هو قوة الميدان وصمود الثوار وإصرارهم على مطالبهم، وهو ما دفع أطرافًا أخرى -حفاظًا على مصالحها- إلى ممارسة ضغوط خلف الستار على مبارك لإجباره على الاستقالة تلبية لمطلب الميدان.

كشفت ثورة يناير النفاق العالمي، فبينما كان التهليل والترحيب بالثورة في أيامها الأولى، وتوافد القادة والزعماء لزيارة ميدان التحرير، وإطلاق التصريحات منه عن تقدير تلك الثورة العظيمة، فإن هؤلاء القادة سكتوا لاحقًا عن الانقلاب عليها، بل إن بعضهم وفر دعمًا سياسيًّا وماليًّا وتقنيًّا للنظام الانقلابي، وساعده على قمع حراك مناهضيه.

بالمحصلة كشفت الثورة من صدق معها، ومن تآمر عليها، سواء داخل مصر أو خارجها، وهي تواجه الآن تلك المؤامرات ومحاولات التشويه، عبر ثبات أبنائها المخلصين الذين لم يتخلوا عن مبادئها يومًا، والذين دفعوا في سبيل ذلك أثمانًا ولا يزالون، لكنهم لم يستسلموا رغم كل ما لاقوه، فهذه الثورة كالذهب لا تزيده النار إلا صقلًا ولمعانًا.

المصدر : الجزيرة مباشر