بين القطار وحادي العيس

سألت صديقي في بدايات حياتنا المهنية عن سر انفعاله في العمل حد الغيبوبة، حتى إنه نقل مرة إلى المستشفى بالرغم من أنه كان يوصف قبلها بالهادئ الوادع، فقال “كلما نظرت إلى هذا المكان وتوقعت أنني سأقضي العمر فيه تنتابني حالة من العصبية والغثيان مع شعور بأن قطارا يسير داخل رأسي”.

كلنا غادرنا ذلك المكان وتقلبت بنا الأماكن والأزمان حتى محطات القطار دمرت. ولا أعلم إن كانت قطارات أمريكا التي هاجر إليها تسير كذلك داخل رأسه أم لا! ما أعرفه أن الناس تركب القطار لتغادر المحطة إلا صديقي فقد ركب القطار رأسه فأوصله إلى بلاد المهجر.

العيس هي (كرائِم الإبل) وفيها يقول قائلهم:

يا حادي العيس عرِّجْ كي أودعهـم

يا حادي العيس في ترحالك الأجـل

ويقابله في الموروث الشعبي قول القائل:

يا سائق العيس مُّر بمنازل هلي

ويا عين لأجل الأهل سيلي المدامع هلي

يقول محمود درويش في مخيلته على لسان رفقاء الرحلة بعد أن أخبرهم سائقها:

ها نحن اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا للنزول

فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ، فانطلق!

أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا

أنا مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبتُ من السِّفَرْ

أما الشاعر الشعبي في العراق فيقول في نهاية الرحلة:

(نازلْ يا قطار الشوق نازل.. هاي ديرتنا)

التقيت قبل أيام في إسطنبول شريكا قديما في الذكريات، كان قادما من بلاد بعيدة للقاء المقربين من الأهل والأصدقاء وقد طغت على المجلس حكايات المنازل والمدن، سألته فيض شوقه فأجابني:

وكل مسافرٍ يزداد شــــــــوقا/ إذا دنت الديار من الديارِ

أينشتاين والقطار

يذكر الأديب التشيكي فرانتس كافكا أن العديد من قصصه ورواياته قد ولدت أفكارها إما داخل القطار وإما بإيحاء منه مثل مجموعته (سور الصين).

والطريف أن الشاعر جارلز باكوفسكي يبوح بصراحة كرهه لمدينة نيويورك وللقطار على وجه الخصوص بسبب شدة الازدحام وفي مرات كثيرة كان يعامله الناس في المحطة بقسوة ويطرحوه أرضا وسط الظلام.

وعن ذكريات القطار يقول العالِم ألبرت أينشتاين أحتفظ بذكرى ما نسيها لحظة واحدة، فذات يوم وبينما كنت أستقل القطار إلى واشنطن. هداني تفكيري أن أكتب رسالة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت أوجه نظره إلى أهمية استخدام الذرة والطاقة النووية في الحرب، الأمر الذي أدت نتائجه إلى اختراع القنبلة الذرية.

يقال إن الأديب العالمي فيليب سوللر كان ثرثارا بطبعه وكان يتحدث مع أي شخص حتى في أموره الخاصة، وقد أقنعه بعض ركاب القطار -الذين كانوا يجلسون حوله في عديد أسفاره- أن عمله ككاتب لا بد وأن يتعاطى معه المخدرات بصفة منتظمة حتى يجرب أحاسيس لم يشعر بها الآخرون ليتناول أفكارا وكلمات بواقعية أكثر ودون تعقيد، وقد كان لا يجني منها في كل مرة سوى الندم الشديد.

الدول لها محطات سفر ورحيل أيضا

دعيت قبل أيام للحديث في إحدى محطات التلفزيون عن (مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة) الذي يضم إضافة إلى بغداد المضيفة (مصر والسعودية والإمارات والأردن إلى جانب تركيا وإيران وقطر والكويت وفرنسا) واعتذرت بلطف عن المشاركة في هذا اللقاء. برغم أهمية هذا المؤتمر كونه نموذجا للسفر والرحيل والهروب السريع لسياسات الدول والأنظمة عندما تدور في فلك المثل المصري الشعبي القائل (سمك.. لبن.. تمر هندي). كنت أتمنى لو أنني ضمن الوفد الإعلامي المشارك في داخل هذا المؤتمر لغرض سؤال وحيد! كيف تحلَّق المؤتمرون حول مائدة طعام واحدة! وهل تم ذلك فعلا؟

ومن طريف التحلَّق حول الموائد، يقول الفيلسوف الروماني إميل سيوران “كنا ذات يوم نتحلق حول مائدة ونتحادث في اللاهوت كانت الخادمة وهي ريفية أمية تستمع إلينا واقفة، فقالت: أنا لا أؤمن بالإله إلا عندما أشعر بألم في أسناني” وبعد مرور حياة كاملة ظل تدخلها هو الوحيد الذي أتذكره.

أعتقد أن قطارات السفر والانقلاب السريع ستكون مدرجة على أولويات المرحلة المقبلة استجابة لسرعة التنقل في سياسات الدول التي ستمنح الشعوب برغم آلامها متعة الحديث والكتابة عن أدب الرحلات وعوالم المدن والسياسات والحكايات.

نختم بحديث القطار والاستشراف السياسي مع أكذب نظرة، إذ يقال إن الأديب الألماني لودفيك بورنه كان له في القطار نظرة سياسية مع بدايات اختراع القطار إذ كتب ذات يوم متفائلا “لكم أنا متحمس لهذه القطارات بسبب نتائجها السياسية المهولة فعليها تنكسر شوكة الطغيان وستصبح الحروب من المستحيلات حيث إنها تقرب شعوب الدول بعضها من بعض”، معقولة؟

المصدر : الجزيرة مباشر