سردية الفشل الانتقالي.. أي لعنة حلَّت بالسودان؟!

رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك

يكاد يكون هنالك شبه إجماع من قادة الحكومة الانتقالية السودانية -في شقيها المدني والعسكري- بتردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية معاً. كلهم يقرون بهذا الواقع الكارثي، ويرددون بصريح العبارة وأحياناً بطريقة ضمنية “نعم فشلنا ولكننا مستمرون” أي أن الاستمرار مُكافئ للفشل! أو كما يتندر الأطباء بتلك العبارة “العملية ناجحة ولكن المريض توفي”.

لعبة الكراسي المميتة

الإشكال المحوري في السودان هو التعلق بالسلطة وشيوع الزبائنية السياسية، كل فصيل أو حزب يضع القصر الرئاسي نصب عينيه، غاية تتحطّم أمامها -طريقة مكيافيلية- كل المبادئ والأخلاق السياسية، عبر دبابة أو غزو خارجي أو حركة تمرد عشائرية، أو باسم الثورة، كما يحدث الآن، المهم أن تصل وتتحكم في أمر البلاد والعباد، أما الجماهير والشعارات فهي مجرد أدوات مُساعدة للصعود، تسند ظهر الحاكم وتعود إلى البيوت لتنام وتفقس، والنتيجة كالعادة نظامٌ فاشل تفوحُ منه رائحة الفساد، وأكثر ما يفرزه مناوبات الشركاء المتشاكسون، اختلافهم مشكلة وتوافقهم كارثة، لأنه يفضي بأي حال إلى لعبة الكراسي المميتة.

تقطع الكهرباء في السودان بالساعات الطوال ولا أحد يعرف متى تعود وكيف تحل المشكلة، ويموت المرضى على أبواب المشافي لعدم وفرة العلاج أو العجر في الحصول عليه، الاقتصاد في حالة يُرثى لها، التضخُّم والركود في سباقٍ متواصل والفوضى تعم الأسواق، أسعار الخدمات لا تُطاق، مجمعات وزارة الداخلية توقفت عن طباعة الجوازات وشهادات التجنيس، البرلمان مُغلق الأبواب ويقوم محله بصورة افتراضية مجلسي الوزراء والسيادي، الذي يحاول تبني العِلمانية، والمحكمة الدستورية مُعطلة بفعل فاعل، أما النائب العام فهو مجرد موظف مأمور يحبس البعض دون جريرة، الوظائف ذهبت مع الريح، الناس تعبت من الركض دون جدوى، الخرطوم مدينة لم تعد آمنة إطلاقاً، بل يمكن القول أيضاً إنها ليست صالحة للعيش الآدمي.

لا حديث عن الانتخابات

ثمة توازن مصالح بين العساكر والمدنيين، ورطتهما أكثر في السلطة دون فكاك، إذ تحكمهما صيغة أشبه بالزواج الإجباري نتيجة للحمل خارج إطار العلاقة الشرعية، وفي حال هدد أي طرف بفض الشراكة يلوّح له الطرف الآخر بما يعيده إلى صوابه، مثل لصوص الثورات تماما، تلوّح قوى الحرية والتغيير لشريكها العسكري، بقميص فض الاعتصام أمام القيادة العامة، وبما يورط كبار قادة الجيش، الذين تم استدراجهم لهذا الفخ. ويلوّح البرهان ورفاقه بقميص الانقلابات وورقة الإسلاميين (الكيزان) كما يسمونهم، ولذلك أصبحت الفترة الانتقالية شائهة، تمضي ببُطء مُتعمد، بل يحرص الطرفان على تمديدها بين الفينة والأخرى، حتى لو أدى ذلك إلى خرق الوثيقة الدستورية، التي تم تعديلها أكثر من مرة بحجة استحقاقات السلام، متى انضمت إليهم حركة تمرد جديدة مددوا لها سنوات الانتقال، وقضوا على احتمالية قيام الانتخابات.

وفي غياب المجالس التشريعية التي تعبر عن جماع الأمة، وحرمان وسائل الإعلام من المعلومات والتضييق عليها أحياناً، ورمي المخالفين السياسيين في السجون من دون مُحاكمات، أو تجميد حساباتهم في البنوك ومصادرة بيوتهم، أصبحت الكوادر تقرر كل شيء على قول ستالين، وأي معارض لهذا النظام الشمولي الجديد، يتم نعته بمعاداة الثورة حتى يصمت للأبد، وهذا بالضبط مثل ما ينصح الطهاة المنحرفون صناع الشواء بإضافة الشطة والتوابل والفلفل الأسود على اللحم الفاسد كي لا يشعر أحد بما فيه من عفن، فالعدوى انتقلت لممارسات الحكومة الانتقالية نفسها، فساد تحت رائحة التوابل الثورية.

سردية الفشل الانتقالي

في كل خطاباته يكرر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عبارات باهتة مثل سنعبر وسننتصر دون أن يكون العبور حقيقياً، فضلاً على حديثه المكرور بأنهم ورثوا دولة متهالكة وتركة ثلاثين عاما، كأنه محلل سياسي وليس هو الرئيس المعني بتجاوز هذه التركة وبناء النظام الجديد. بل كثيراً ما راهن على وعود المجتمع الدولي ودولارات المانحين التي لم تأت ولا يبدو أنها ستأتي، لأن العالم ليس جمعية خيرية، ينفق على الحكومات دون مقابل. بينما يكتفي الفريق البرهان بالفُرجة أو التغاضي عن الأزمات، ويحرص فقط على تعزيز سطوته العسكرية لأمرٍ ما. أما قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو فقد ظل هو الآخر يردد عبارات على شاكلة “نحن صبرنا كتير، الحكاية دي كده ما بتمشي، لقد فشلنا” كأن الفشل كلمة جيدة يتباهى بها، ومتى وجد زيارة خارجية تهندم لها بكامل الصلاحيات السيادية، أو شعر بموجة تغيير واحتجاجات هب لقمعها.

من خلال المرحلة التي مرت من عمر الانتقال، ومحاولة تعديل التشريعات التي تمس المجتمع والعقيدة والتطبيع مع إسرائيل وغيرها، يتضح أن قادة الدولة لا يعرفون أولوياتهم والمهام التي يتعين عليهم القيام بها، ويخلطون بين صلاحيات الحكومات الانتقالية وتلك المُنتخبة، كذلك يفتقرون بشدة -وهذه تنسحب على الطبقة السياسية كلها- يفتقرون للحس الوطني وروح المسؤولية، والقابلية للعمالة وخدمة أجندة الخارج، ولا يتحلون بأي قدر من الصدق والتجرد، شأنهم شأن سلفهم في العمل العام، النخبة السياسية التي أدمنت الفشل، كما وصفها الراحل منصور خالد.

الكذب على الناس

يكذبون على شعبهم، كثيراً ما يفعلون ذلك في الخطابات الرسمية، وعند مواجهة الأسئلة الحرجة، من خلال بيع الأمنيات والوعود المستمرة. فهل الكذب ضروري للسلطة إذن؟ لا، بل هو بديهي تمامًا وليس فقط ضروريًا، في إحدى نوبات صحو الضمير القليلة و(العميقة)، التي كانت تنتاب كلير أندروود، من حين لآخر، فاجأت زوجها فرانك أندروود (أوفرانسيس كما تناديه وحدها من بين الجميع)، سيد البيت الأبيض وقتها، قائلة “إننا نكذب على الناس يافرانسيس”، فالتفت إليها وكله اندهاش: “بالطبع نحن نكذب، تخيلي كيف سيكون تصويت الناس، إذا مانحن غدونا نقول لهم الحقيقة!”، لقد قال ذلك بقدر رهيب من البداهة! وها هم يفعلون بالسودان، حتى حلت به لعنة الدول الفاشلة.

المصدر : الجزيرة مباشر