سد النهضة.. هل يدق طبول الحرب على ضفاف النيل؟

بعد مرور سنوات على أزمة سد النهضة، وماراثون المفاوضات التي أعقبت إعلان اتفاق المبادئ في 23 مارس/آذار 2015 بين مصر والسودان وإثيوبيا، ما زالت الأزمة تراوح مكانها، وتزداد مخاطرها مع مرور الوقت، وتدق طبول الحرب على ضفاف النيل.

ومع دخول مرحلة الملء الثاني للسد دون اتفاق، بات واضحا أن إثيوبيا ما زالت غير آبهة للمطالب والاعتراضات المصرية السودانية، وترى أنها غير مجبرة على تقديم تنازلات، مما يؤشر إلى أن مخاطر نشوب صراع عنيف ربما هي أقرب ما تكون، وخاصة إذا اكتمل السد وبدأ العمل دون التوصل لحل الأزمة بين الأطراف الثلاثة، عبر الوصول لاتفاق حول قواعد التشغيل.

مجلس الأمن ومنعطف جديد

في إطار المحاولات المصرية لجأت مصر مؤخرا إلى مجلس الأمن، محذرة من أن استمرار الأزمة يؤدي إلى “احتكاك دولي” يعرّض الأمن والسلم الدوليين للخطر، ولكن رغم أنه يمكن لمجلس الأمن إلزام إثيوبيا بوقف البناء والملء لحين التوصل لاتفاق ملزم بين أطراف الأزمة الثلاثة، إلا أنه من غير المرجح أن يحدث.

يؤشر إلى ذلك ما قاله رئيس مجلس الأمن “نيكولا دي ريفيير” في مؤتمر صحفي، الخميس الموافق الأول من يوليو/تموز الجاري، حيث قال “ليس لدى المجلس الكثير للقيام به في أزمة سد النهضة، وإنه ليس لدى المجلس سوى جمع الأطراف معاً للتعبير عن مخاوفهم، ثم تشجيعهم للعودة إلى المفاوضات للوصول إلى حل”، بحسب أوردته وكالة رويترز.

وبغض النظر عما قاله رئيس مجلس الأمن فنعتقد أنه حتى لو حدث وأصدر مجلس الأمن قرارا تجاه إثيوبيا فإنه من المرجح ألا تلتزم به الدولة الإثيوبية.

 جذور الصراع في حوض النيل

لفهم طبيعة أزمة سد النهضة فإنه من الأهمية بمكان إلقاء الضوء على جذور الأزمة في حوض نهر النيل.

تشكل المياه الأساس في التفاعلات الحضارية والصراعات والتدخلات الخارجية، كما أنها عبر المراحل التاريخية المختلفة تشكل محور الجغرافيا السياسية، إضافة إلى أن المياه تمثل قضية لها أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية تمتد تفاعلاتها لأن تصبح محركا محتملا للصراعات.

الصراع حول مياه النيل صراع له جذور ضاربة في عمق التاريخ، ولكن تحديدا بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية تكون موقف لدول أعالي نهر النيل متمسك بعدم وجود إطار قانوني ملزم يحكم تقسيم المياه بين دول حوض النيل، ويرى أن اتفاقيات الحقبة الاستعمارية كانت لتحقيق مصالح الدول الاستعمارية، ولم تكن في صالح دول الحوض، كما أنها أُقرت في فترة الاحتلال ولم يكن هناك إرادة وطنية للرفض أو القبول، واتفاقية 1929 كانت لصالح القوى الاستعمارية، واستفادت منها مصر والسودان فقط بعد انتهاء فترة الاحتلال، ومن ثم يجب التفاوض لإعادة تقسيم وتوزيع حصص المياه، وفقا للحقوق الحالية دون غيرها.

 مبدأ نيريري وتقاسم مياه النيل

في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1961، أعلن “جوليوس نيريري” رئيس تنزانيا -التي يقع في أراضيها الجزء الأكبر من بحيرة فيكتوريا- في خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة موقف بلاده تجاه اتفاقيات مياه النيل في الحقبة الاستعمارية، حيث أكد أن تنزانيا تعدُ اتفاقية عام 1929 لاغية من جانب واحد ما لم يتم إبرام اتفاقية بدلية خلال عامين.

أدى ذلك لتوتر العلاقة مع مصر، كما تعالت دعاوى بين دول حوض نهر النيل بضرورة اتساق مواقفها مع السياسات المائية التي نادى بها البنك الدولي، واقتراحات بعض الدول بتسعير وبيع المياه لكل من مصر والسودان، وفي عام 1996 أيدت أوغندا طلبا رسميا تنزانيًا في اجتماع “التكونايل” بأن تدفع مصر والسودان مقابلا ماليا لمياه النيل.

ومما يجدر الإشارة إليه أن دول حوض النيل مواقفها موحدة تجاه دولتي المصب مصر والسودان، غير أن بعض دول المنبع التي لا تعتمد بالأساس على نهر النيل، ولديها وفرة مائية، لم تتخذ موقفا متشددا تجاه مصر والسودان، بل كانت أكثر تسامحا في مواقفها ومرجع ذلك أنه ليس هناك ضرر أو تأثير على مصالحها.

جذور الموقف الإثيوبي

فيما يتعلق بموقف إثيوبيا تجاه نهر النيل ومصر تحديدا فإن هناك جذور تاريخية ضاربة لهذا الموقف، غير أن ما نريد الإشارة إليه هنا هو الموقف من مبدأ الحقوق المكتسبة بناء على الاتفاقيات في الفترة الاستعمارية، فقد أعلنت إثيوبيا رفضها شرط الحصول على إذن مسبق من مصر والسودان قبل إقامة أي مشروعات على نهر النيل، واحتفظت لنفسها بحق استخدام مياه النيل، وقد ضمنت ذلك بنص في مذكرة رسمية في 26 فبراير 1956، كما ادعت ملكيتها لمياه نهر النيل لأنها تنبع من أراضيها، وفقا لمبدأ السيادة المطلقة.

إضافة إلى ذلك رفضت إثيوبيا اتفاقية تقاسم المياه بين مصر والسودان عام 1959، وعارضت بناء السد العالي، واحتجت رسميا على ذلك، وفي عام 1981 أعلنت البدء في مشروع لإقامة 40 سدا وقناة بدعم أمريكي وإسرائيلي، وقد نفذت إثيوبيا بالفعل حتى 2013 مشروعات تخص ثلاثة عشر سدا ما بين كبير وصغير، ولم تعترض مصر لأن هذه السدود لم تكن تمثل ضررا جسيما بالنسبة لها، وسد النهضة مثار الأزمة مع مصر والسودان كان هو السد الرابع عشر.

وخلال مؤتمر النيل المنعقد في أديس بابا عام 1997 دعت إثيوبيا إلى إلغاء الاتفاقيات الاستعمارية والاتفاقية المصرية السودانية لعام 1959.

تغير الأوضاع في حوض النيل

من البديهيات وفقا لمدرسة الجيوبوليتيك (أن الدولة الأقوى بين الدول التي يمر نهر عبر أراضيها تسعى دوما للسيطرة على باقي أقاليم الدول الأخرى بغرض التحكم في النهر)، وعلى مدار الحقب الماضية تمتعت مصر بنفوذ قوي لدى دول النهر، حيث أصبحت القوة المهيمنة في منطقة حوض النيل مما أدى لاستقرار الأوضاع، حيث لم تفكر دولة من دول الحوض بما فيها إثيوبيا في الدخول في صراع ومواجهة مباشرة مع مصر، خاصة إذا تعلق الأمر بأمن مصر المائي.

في تسعينيات القرن الماضي، أدى تغير الأوضاع الإقليمية في غير صالح مصر والسودان بعد 2011، وانفصال جنوب السودان إلى صعود إثيوبيا ودول شرق أفريقيا التي تضم (تنزانيا وأوغندا ورواندا وبوروندي وكينيا)، كما أن توفر التمويل الدولي للمشروعات والأعمال في هذه الدول والذي تقدمه الصين أسهم في تحدي الهيمنة المصرية وتراجعها في دول الحوض.

كذلك مثل تغير الخطاب الدولي فرصة لصالح إثيوبيا، حيث أصبح الرائج هو مفاهيم الأمن الإنساني والاستخدام المنصف والمتساوي لموارد المياه، بعد أن كانت القوة العسكرية والمعاهدات الدولية هي القاعدة.

تحولات الهيمنة

من المعروف أن علاقات الدول باتت ترتبط بما يُعرف بـ”المتغير المائي”، وحوض نهر النيل يخضع في علاقات دوله لهذا المتغير، ومن ثم يتعين النظر إلى علاقات مصر وإثيوبيا ودول حوض نهر النيل في إطار ما يسمى “الهيدروبوليتك”.

لقد كان شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة دون انتظار موافقة دولتي المصب إعلانا بانتهاء عهد الموافقات المسبقة كشرط للمشروعات على النيل الأزرق وإيذانا بتحول الهيمنة، وكان واضحًا أن بناء السد يحمل أهدافا سياسية تتمثل في استغلال الورقة المائية، وخلق حالة من الهيمنة “الهيدروبوليتيكية”، والسيطرة الإثيوبية، وتصريحات المسؤولين الإثيوبيين تؤكد على مفهوم الهيمنة الإثيوبية على نهر النيل وتجلى ذلك في الإعلان عن الشروع في بناء المزيد من السدود على نهر النيل، وتغيير مواصفات سد النهضة وسعته التخزينية جعلت خبراء يصفونها بالعدائية، وتمثل  كارثة بالنسبة لمصر.

تصاعد بين الاستراتيجية المصرية والإثيوبية

من الأهمية بمكان لبناء التوقعات حول تطورات أزمة سد النهضة فهم الاختلاف بين الاستراتيجية المصرية والإثيوبية، فهناك تصاعد بين الاستراتيجيتين حيث تتبع إثيوبيا استراتيجية بناء السدود، ومصر استراتيجيتها الحفاظ على حصتها من المياه.

نهر النيل يمثل شريان حياة بالنسبة لمصر وشعبها عبر التاريخ، وقضية حياة أو موت للدولة المصرية، وسد النهضة لا يعني لإثيوبيا الماء، كما هو حال السد العالي بالنسبة لمصر، التي كانت قبله تتقلب بين الجفاف والفيضان بحسب مواسم الأمطار على هضبة الحبشة.

وبمتابعة مسار مفاوضات سد النهضة، نجد أن المنحنى التفاوضي يؤشر إلى أن أديس بابا هدفها الوصول إلى ما يسمى “التصفير المائي”، وخلق واقع استراتيجي في إطار الهيمنة المائية يعجز معه المفاوض المصري عن إيجاد حلول توافقية في إطار مساحات مشتركة تنمويا وسياسيا.

رهانات مرتفعة في أزمة السد

بالنظر إلى أزمة سد النهضة نجد أننا إزاء صراع ثلاثي الأطراف بين مصر وإثيوبيا والسودان، يبدو مستعصيا على الحل في ظل عدم إحراز تقدم يذكر في تسوية الأزمة مما يرفع الرهانات في هذا النزاع، خاصة أن مصر تعتمد على نهر النيل لتوفير أكثر من 80% من احتياجاتها المائية، وسد النهضة بمواصفاته وتصرفات إثيوبيا الأحادية سيسبب ضررا جسيما لمصر، أفاضت الدراسات والتقديرات وكثير من الباحثين في بيانه، وتوضيح انعكاساته الكارثية على مصر والتي قد تسبب تهديدا وجوديا للشعب المصري، ويلحق الضرر بخمسة ملايين مزارع في مصر، إضافة إلى أن مصر في حالة عدم وجود سد النهضة ستصل في عام 2025 إلى حد الشح المائي، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة.

 تغير لغة الخطاب المصري

لقد شهدت الفترة منذ 2011 تصاعدا في الخطابات الحادة بصيغة وطنية، بلغت في مصر إلى حد الدعوة لتخريب السد، وذلك بعيدا عن الخطاب الرسمي.

وعلى مستوى الحكومة فقد التزم الجانب المصري والسوداني مبدأ التفاوض، وكانت مصر حريصة على التأكيد على أن خيارها هو التفاوض والحل السلمي، ولكن مع تصلب الموقف الإثيوبي، والذي لا يتغير، ولا يريد أن يتغير تعالت نبرة التصريحات المصرية، والتي بلغت ذروتها في تصريح الرئيس المصري، والذي قال إنه “لن يتم تشغيل السد بفرض الأمر الواقع”، كما حذر بعد ذلك في وقت آخر من المساس بنقطة مياه من مياه مصر.

لقد حرصت مصر على التفاوض، والتأكيد على أنها دولة غير عدائية، وذلك للخروج بنتيجتين هما: اتفاق ملزم أو تعنت إثيوبي يشهد عليه المجتمع الدولي، خاصة أن التفاوض هنا يمثل نوعا من أنواع الاثبات أن مصر حريصة على سلوك جميع المسارات السلمية.

مخاطر تدق طبول الحرب

بتصعيد مصر الأزمة إلى مجلس الأمن وانسداد الأفق أمام الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم وعادل، ويضمن التدفقات المائية لمصر والسودان؛ فإنه ليس هناك ضمانة لعدم الانزلاق نحو صراع عنيف، وخاصة في ظل العجز الأفريقي عن إنهاء الأزمة، والعجز الدولي سواء على مستوى مجلس الأمن، أو مستوى وساطات القوى الدولية كالولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.

إن التصعيد المصري وما تبعه من خطوات يضفي بدون شك مصداقية في حالة اللجوء للخيار العسكري، والذي إن لم تلوح به الدولة المصرية رسميا في حال فشل المفاوضات إلا أنه ليس بمستبعد، ومن الخطأ التشكيك في قدرة مصر على القيام بعمل عسكري، والنظر إلى هذا الخيار على أنه مستحيل.

الخلاصة

إن أزمة سد النهضة بمسارها الحالي وإصرار إثيوبيا على التصرف الأحادي يقود نحو احتمالات صراع عنيف، خاصة أن سد النهضة يمثل مشروعا إثيوبيا خارج مبادرة حوض النيل واتفاقية التعاون الإطاري، وهو مشروع بمواصفات تتجاوز الاحتياجات التنموية لإثيوبيا، كما أن استمرار الخلافات فيما يتعلق بتقاسم مياه النيل، والاعتقاد بعدم عدالة الحصص سيظل عاملا مؤججا للصراعات الخشنة في حوض النيل، وسيقرع طبول الحرب على الدوام.

إن اكتمال بناء السد وتشغيله دون اتفاق ملزم يمثل خطرا كبيرا على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، خاصة أن الحقيقة المؤكدة هي أن هناك تزايد في الطلب على الموارد المائية نتيجة زيادة السكان واحتياجات التنمية، كما أن عدم إدراك احتياجات دولتي المصب وما تعانيه مصر تحديدا من شح مائي يدق طبول الحرب، يجعل نشوب حرب مياه أمرا واردا وليس احتماليا، ويمثل تهديدا للأمن والسلم الدوليين.

إن إثيوبيا على الأخص مطالبة بأن تتعاون بشكل كبير، وأن تتفهم تخوفات دولتي المصب ومصر تحديدا، وإن على المجتمع الدولي أن يأخذ المخاوف والتحذيرات المصرية بجدية، ويسعى لإسكات طبول الحرب التي تدقها أزمة سد النهضة، ويعلو صوتها مع مرور الوقت دون الوصول لاتفاق قانوني ملزم وعادل بين مصر والسودان وإثيوبيا.

المصدر : الجزيرة مباشر