تقلُّبات المِزاج السوداني حول أزمة سَد النهضة

مريم الصادق المهدي

ظَلّ موقف السودان من سد النهضة الإثيوبي يتأرجح تارة من التأييد المُطلق إلى الرفض المُطلق، ومن ثم القبول بالأمر الواقع حد امتداحه أحياناً، أو تصويره كخطر مُدلهم في كثير من الأحيان.

وزيرة خارجية السودان، مريم الصادق المهدي، أقرت أمام جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول سد النهضة بحق إثيوبيا في استغلال مواردها المائية، وكشفت عن الفائدة التي سيجنيها السودان من هذا السد الذي سيحتجز في نهاية الأمر نحو “74” مليار متر مكعب من المياه، وهي تقريباً مُجمل حصتي مصر والسودان.

لكن ذلك لم يمنع إثيوبيا من التمسك بموقفها الرافض لتدويل القضية، أو حلها بما يرضي جميع الأطراف، والمضي قُدماً في ملء وتشغيل سد النهضة بصورة أحادية فظة، والاكتفاء فقط بإخطار الحكومة السودانية بموعد الملء الثاني بعد الشروع فيه، وهو موقفٌ أشبه بإخطار راكب في المحطة أن قطار الثامنة سوف يتحرّك في موعده عند الثامنة، دون أن تكون له الخيرة من أمره!

ولعل أغرب ما في الموقف السوداني أنه جمع بين النقيضين، تأييد السد ورفضه، أو غض الطرف عنه أحياناً، لتتحوّل قضية بهذه الأهمية والخطورة إلى مجرد وجهة نظر، تتحكّم فيها تقلُّبات المِزاج السياسي، وبصورة أدق يتحكم فيها موقف النظام الحاكم في الخرطوم من مصر وإثيوبيا، داعماً لهذا ومناوئاً لذاك.

لا السودان ولا مصر بات بمقدورهما إيقاف ملء وتشغيل سد النهضة، ولا يملكان الآن سوى الصراخ، ونقل الكرة من ملعب إلى آخر

خلال حقبة الرئيس المعزول عمر البشير، كان السودان من أشدّ الدول حماساً لقيام سد النهضة وطفقت الخطابات الرسمية تتغزّل فيه، من ناحية تنظيم الدورات الزراعية والحد من الفيضانات، وتوفير كهرباء بأسعار رخيصة جداً للسودانيين، وغض النظر عن المخاطر المُحتملة كالجفاف، والتحكم الإثيوبي في جريان النهر، وتهديد ملايين السودانيين بالغرق أيضاً، قبل أن نأخذ موقف الحياد. والآن بعد الثورة، تحوّل الموقف من النظر إلى النصف الممتلئ من الكوب إلى النصف الفارغ فقط، لدرجة التلويح بالحرب واحتضان مناورات عسكرية مع مصر، تحت مسمى “حماة النيل”، لا يبدو أنها ستحمي أحداً، بعد وقوع الكارثة المائية.

وقد بدا أيضاً أن الخرطوم مجرد عربة تجرّها خيولٌ من داخل قصر الاتحادية، وهو ما حاولت إثيوبيا تصويره في توصيف الموقف السوداني -بهدف تسفيهه- بأنه مُجرّد تابع ذليل لمصر، تملي عليه ما يقول ويفعل. ولكن الحقيقة الماثلة، أنه لا السودان ولا مصر بات بمقدورهما إيقاف ملء وتشغيل سد النهضة، ولا يملكان الآن سوى الصراخ، ونقل الكرة من ملعب إلى آخر تبديداً للوقت -كما تسعى له أديس أبابا- أو الاعتراض على التحكيم الأفريقي، والذهاب إلى مجلس الأمن دون جدوى، والعودة مرة أخرى إلى بيت الطاعة الأفريقي، بينما المباراة حُسمت لصالح إثيوبيا.

ما هو مُزعجٌ ومُقلقٌ حَقّاً، عدم وجود استراتيجية سودانية مُوحّدة بخصوص سد النهضة، أو سردية يفتل على جديلتها المنافحون عن موقف الخرطوم، تتضمّن رؤية شاملة تُغلِّب مصلحة هذا البلد، وتُؤمِّن مركز صناعة القرار الوطني إزاء القضايا ذات البُعد القومي، سيما وأن العالم الآن مُقبلٌ على صراع حول المياه، وهي رؤية كانت سوف تُسهِّل مهام الحكومات السودانية المُتعاقبة، دون أن تضطرب المنصة التي سيقف عليها الوفد السوداني، سواء كان يمثل حكومة عسكرية، أو انتقالية، أو مُنتخبة.

مواقف الحكومة السودانية المُتذبذبة أغرت بتكاثر الآراء المتباينة وسط الخبراء والمختصين أنفسهم، وجعل الشارع في حِيرةٍ من أمره، الذين يعشقون الأغاني والأطعمة الإثيوبية وأجواء الهضبة، ويكرهون مصر، يُساندون بناء السد، والذين يحبون مصر والأزهر والسينما، وتدرّبوا في مراكزها الاستخباراتية، يدعمون موقفها، وهنالك من يلتزم الحياد بالمرة، كما لو أن الأمر لا يعنيه، أو أنّ النيل الأزرق مجرد ضيف أفريقي عابر لبلادنا.

لا شَكّ أنّ سد النهضة سيحرم السودان من الري الفيضي، وهي مساحة تُقدّر بحوالي مائة ألف فدان، كما أن غياب المعلومات بخصوص كيفية تشغيل السد سوف يمنع تشغيل سد الروصيرص وبقية السدود بفعالية، فضلاً على احتمالية حدوث جفاف ممتد، وهذا الجفاف الممتد يحدث مرة كل 25 عاماً، فإذا حدث قد تقوم إثيوبيا بملء السد من جديد، وهذا سيُقلِّل من حصة مصر والسودان، فضلاً على القدرة التدميرية العالية للسد الإثيوبي، واحتمالية انهياره القائمة، ما يعني أن السودان بات فعلياً تحت رحمة أديس أبابا، إن شاءت أغرقته أو شاءت وهبته الأمان.

أما أهم الإيجابيات -كما يردد بعض الخبراء في السودان- فهو سيرفع منسوب التوليد الكهربائي، وسينظم جريان نهر النيل الأزرق وبالتالي يُمكّن السودان من استخدام حصته الفائضة التي تُقدّر بـ”6.5 مليارات متر مكعب” تذهب سنوياً إلى مصر، لأننا لا نملك المواعين التخزينية الكافية لها.

 العمل العسكري يرفع الحصانة عن كل السدود داخل السودان

وبالرغم من كل هذه المعلومات المبذولة، يتحرّك السودان بدوافع سياسية، أو بالأحرى يدعم حلفاءه في إثيوبيا أو مصر، بمنطق زواج المُتعة، والشاهد أنّ الحكومة السودانية السابقة رفضت الدعم العربي في البدء، ولجأت له الآن، وكانت إثيوبيا ولا تزال تستقوى بالأفارقة، وجعلت من الاتحاد الأفريقي غُرفةً للتحكُّم في القضية وخدمة موقفها التفاوضي.

أما الآن، مصر والسودان قد فشلا في إيقاف ملء سد النهضة، لنتحدث عن السودان بصورة مُنفردة، وتأكده من لا جدوى المفاوضات وعبثيتها، فهو لا شك قد وجد نفسه في مواجهة السؤال الحائر: ما العمل؟ هذا مع الأخذ في الاعتبار أن خيار ضرب سد النهضة عسكرياً، سوف تترتّب عليه تبعات خطيرة، من بينها أن العمل العسكري يرفع الحصانة عن كل السدود داخل السودان، ويجعلها عُرضة للانتقام، بحكم المدى الجُغرافي، وسيمنح إثيوبيا تعاطف العالم ودخول الدب الروسي بكل ترسانته العسكرية إلى جانب نظام آبي أحمد.

وبالتالي، يحتاج السودان إلى التفكير بصورة أعمق في شكل المواجهة المُحتملة، وكيفية التعامل مع كل السيناريوهات، دون مؤثرات خارجية ضارة، ودعم فريق التفاوض الحالي بخبرات فنية وقانونية وسياسية ليكون أكثر فعالية، ودفع إثيوبيا إلى التعامل بمسؤولية مع مخاوف جيرانها، دون الخُضُوع لتعنتها الشعبوي.

المصدر : الجزيرة مباشر