جائحة الحوَل.. والطبيب الضرورة!!

مظاهرات في عواصم من أجل فلسطين

كانت مصر إذا عطست، شعرت كل شعوب المنطقة بالتعب والإجهاد، هكذا كتب المؤرخون، وهكذا توارثنا، لا نقصد هنا المنطقة العربية فقط، بل الأفريقية أيضاً، والشرق أوسطية عموماً، المظاهرات تندلع في مصر، ثم في بقية دول المنطقة، الاحتجاجات تعم مصر، ثم في بقية الأقطار، الغضب يجتاح مصر، ثم يستشري بعد ذلك، من مصر ينطلق الشعر والنثر والخطابة، وتصدح الأغنية واللحن والمقامات، تهب من مصر رياح الوطنية وإذاعة صوت العرب والصحافة الفاعلة والإنتاج السينمائي الهادف، تنسج مصر خيوط كسوة الكعبة، وتنتفض لفلسطين والقدس، تزود عن الجزائر واليمن، وتمد أذرعها للكونغو وأوغندا، وحتى الأرجنتين وكوبا، لذا كانت مصر أُم الدنيا، مصر المحروسة، مصر ملاذ المضطهدين والمقهورين ودعاة التحرر.

ما الذي حدث لمصر؟!
وكيف؟ ولماذ؟ وإلى متى؟
انتفضت أخيراً معظم شعوب العالم شرقاً وغرباً من أجل فلسطين إلا شعب مصر، شهدت كل عواصم العالم مظاهرات واحتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي على أهلنا في غزة المحررة والقدس المحتلة إلا في مصر، شحنات الأغذية لن تنتصر للقضية، المساهمة في إعادة الإعمار لن تعيد شهيداً إلى الحياة، تصريحات المجاملة لن تواسي مكلوماً في محنته، الدعم العسكري فرض عين في مثل هذه الظروف، على العكس، عاش العالم أياماً عصيبة في الوقت الذي أصيب فيه المصريون بالمرض اللعين، ألا وهو الحوَل، هذه هي الحقيقة، أصيب المصريون بالحوَل طوال فترة العدوان الإسرائيلي على غزة والقدس والضفة.

هل هو الطابور الخامس الصهيوني الذي تسلل إلى عقولنا؟ هل هي وسائل الإعلام التي أصبحت منزوعة الهوية؟ هل هي (الفراخ البيضا)، أم اللحوم المجمدة؟

استطاع إعلام الصهاينة العرب تغيير اتجاه البوصلة في مصـر، استطاعوا تخريب العقل المصري لدرجة جعلتهم لم يستطيعوا التفريق بين العدو والصديق، أو بين العدو التاريخي والشقيق. سمعنا من يهاجم الشعب الفلسطيني، ومن يهاجم حركة حماس، ومن يهاجم المقاومة عموماً، بل ومن يدافع عن العدو الصهيوني، رأينا مشاحنات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي في هذا الصدد.
هل هناك حوَل أكثر من ذلك؟ هل هناك خلل أعظم من ذلك؟ إنه إذن المرض اللعين، قد تكون الجائحة، التي تراجعت بالدور المصري، من دور القائد إلى دور المستكين، ثم إلى دور التابع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظم.

يوماً ما كانت الأحزاب تتبارى في التعبير عن موقفها، كانت القوى السياسية عموماً تهرع للأخذ بزمام المبادرة، كانت النُخب المصرية المختلفة تسارع في إعلان غضبها، كانت النقابات المهنية تنصب السرادقات، كانت الجمعيات والمنظمات الأهلية تجمع التبرعات، كان طلاب الجامعات ينتفضون، كانت الدماء تنتفض في عروق الحركات العمالية، كان تلاميذ المدارس ينشدون الأغاني الوطنية، كان التليفزيون يزهو بالمارشات العسكرية، كانت مساحات الرأي ملتهبة، كانت تصريحات المسؤولين ذات قيمة، حتى الأندية كانت تلتحف برداء الوطنية والقومية ونداءات التطوع والمقاومة الشعبية.

ما الذي حدث لمصر، وكيف حدث ذلك؟ هل هي أموال نفط الخليج المتأمرك؟ هل هو الطابور الخامس الصهيوني الذي تسلل إلى عقولنا؟ هل هي وسائل الإعلام التي أصبحت منزوعة الهوية؟ هل هي (الفراخ البيضا)، أم اللحوم المجمدة؟ هل هو مصل كورونا؟ هل هي منابر مختار جمعة، أم مدارس طارق شوقي، أم مراكز شباب أشرف صبحي؟ هل هي كباري الهيئة الهندسية، أم كحك الهيئة الوطنية؟ هل هي الصهيونية العالمية، أم منظمات التمويل الخارجي، أم مناهج الجامعات الأجنبية؟ أم أنه كل ذلك معاً؟

 لم يكن يتصور أحد أنه سوف يأتي اليوم الذي ينظر فيه بعض المصريين إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية ثانوية

مصر أيها السادة يجب أن تعود إلى سيرتها الأولى، يجب أن تتصدر المشهد، يجب أن تأخذ بزمام المبادرة، لا تنتظر توجيهاً من واشنطن، ولا تكليفاً من رئيس البيت الأبيض، ولا حتى طلباً رسمياً من أي من الأطراف، شعب مصر أيها السادة يجب أن يكون السيد، يقود ولا يُقاد، يبادر ولا ينتظر الإشارة، ولا حتى موافقة هذه الجهة أو تلك، إعلام مصر يجب أن يتصدر المشهد بأموال مصرية، ليست خليجية أبداً، ازدواجية الانتماء ثبت أنها كارثية، رشاوى النفط الإعلامية أضحت أقرب إلى العمالة والخيانة، لا يجب أبداً استمرار هذه الأوضاع المترهلة أكثر من ذلك.

لم يكن يتصور أحد أنه سوف يأتي اليوم الذي ينظر فيه بعض المصريين إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية ثانوية، أو إلى القدس الشريف على أنها مدينة تعني الفلسطينيين فقط، أو أن المسجد الأقصى يخص المقدسيين وحدهم، لم يكن أحد يتصور أنه سوف يأتي اليوم الذي تقصف فيه طائرات العدو الصهيوني أشقاءنا في فلسطين المحتلة، بينما نحن في مصر نشاهد مباراة كرة قدم، أو مسلسلا تافها، أو حتى حفلاً فنياً، بدافع الإلهاء ومزيد من التغييب.

بالفعل، هذا ليس شعب مصر، نحن أمام شعب آخر، شعب مبرمج، منزوع الدسم، لا أقول منزوع النخوة، ذلك أن النخوة كامنة في شعب مصر، هي فقط في حاجة إلى تنشيط، في حاجة إلى من يوقظها، لا أعتقد أبداً أن هذه الغفلة أو هذا التغييب في مصلحة الدولة المصرية، ولا حتى في مصلحة النظام الحاكم، أي نظام حاكم، لذا أدعو النظام إلى تحمل مسئولياته، استعادة الروح الوطنية، روح المقاومة والمبادرة والقيادة، نحن نتحدث عن مصر، مصر الغنية بكل مقومات الحياة، مصر التي في خاطري.

مرض الحوَل الذي أصاب المصريين تجاه القضية الفلسطينية تحديداً، هو بكل المقاييس جائحة سرطانية ناقلة للعدوى، العلاج منها أصبح أمراً حتمياً، بما يتوجب معه البحث عن لقاح سريع المفعول، المنظومة كلها في حاجة إلى طبيب ماهر يتعامل مع المرحلة، الذين سطوا على العيادة المصرية هم في واقع الأمر مجموعة من “التمرجية” فشلوا في التعامل مع الحالة، المؤكد أنهم هم الذين أنتجوا هذا الفيروس وفي معامل صهيونية، من المؤكد أيضاً أن لعنة المصريين سوف تحل عليهم، عاجلاً أو آجلاً، هُم لم يقرؤوا التاريخ أبداً، بل ليسوا من معتادي القراءة، حتى هذه لم يستطيعوا إتقانها.. في كل الأحوال الشفاء قادم، والمصريون أبداً لن يستسلموا للمرض.

المصدر : الجزيرة مباشر