هل سيخوض اليمين المتطرف جولة أخرى ضد الحجاب في كندا أسوة بفرنسا؟

في هذا العالم المنفتح ثقافيًّا ومعلوماتيًّا تعيش قضية “الهُوية” فيه معركة المخاض الصعب بين الثقافات، ومن بينها ثقافة التعايش.

في هذا المقال ندلل على ذلك بين دولتين في هذا الكوكب الذى تعيش فيه الإنسانية أتون صراع حول الهيمنة والوجود، وتبقى معركة الهوية وتعريف مفهوم هو السؤال الأصعب فيه.

هنا كندا الدولة المتقدمة في جميع المجالات التي تُعد من العالم الأول، وهناك أفغانستان الدولة النامية الفقيرة التي تعد في ذيل العالم الثالث.

لا ينكر الباحثون المتخصصون في علم الاجتماع السياسي أن العالم اليوم -رغم وجود مؤسسات المجتمع الدولي ومظلاته الأممية- لا يتفق على تعريف كثير من المصطلحات. على سبيل المثال، لا يوجد تعريف متفق عليه لمصطلح الإرهاب الذي يستخدمه بكثرة مبالغ فيها زعماء وحكومات، كما أن مصطلح التعايش وتقبّل الآخر يشهد تباينًا في التطبيق، فدول كثيرة ومنها عظمى تمنع أبسط المظاهر الدينية مثل الحجاب بدعوى الهوية والتعايش، والجمهورية الفرنسية تكفيك مثالًا.

حركة طالبان

منذ أشهر قليلة، قام العالم ولم يقعد تعقيبًا على موقف حركة طالبان -العائدة إلى السلطة بعد عقدين من الزمن- بفرض الحجاب، باعتباره ثقافة وهوية أفغانية يجب احترامها، الجديد أن الحركة الدينية لم تستخدم مصطلحات تدلل أن قرارها من منظور ديني، بل أعادت صياغة خطابها الحديث ليعبّر على أن هذه ثقافة وعادات اجتماعية يجب احترامها، وتحدّث لأول مرة الناطق باسم حركة طالبان مقارنًا قرار حكومته بما تقوم به دول غربية تمنع الحجاب، ليس لأنها كما تزعم تحارب الإسلام، فالحجاب شعيرة دينية لمعتقدات آخرى مثل المسيحية واليهودية، ولكن كما قال لأن الحجاب لا يتناسب مع قيم الهوية العلمانية لتلك الدول، وعلى الجميع احترام هوية الشعب الافغاني وثقافته سواء بسواء.

ويبدو أن طالبان في هذا الخطاب الجديد أتقنت فن الحديث باللغة التى يفهمها الغرب، لكن هل أتقن الغرب اللغة التى يتحدث بها إلى الشعوب؟

ثمة غرابة عجيبة في ردود الفعل الغربية التى دافعت باستماتة على قوانين حظر الحجاب والملابس الدينية حفاظًا على علمانية الدولة في الحالة الفرنسية، بينما يصف العلمانيون -أنفسهم- العلمانية بأنها تحمل قيمًا من أبرزها الحرية في كل شيء، بما فيها المعتقد والهوية والفكر والملابس وغيرها، وأن أبرز ما يميّز هذا المجتمع العلماني تعايشه متجانسًا مع أنماطه المختلفة دون التمييز على أي أساس.

وإذا سلّمنا بأن دولًا إسلامية من بينها أفغانستان يرى اليوم النظام الحاكم فيها أن التعايش سيكون مقبولًا مع الآخر أيًّا كان جنسه أو دينه، ولكن الهوية والثقافة الأفغانية تفرض على الآخر احترام المجتمع في كثير من الأمور منها السمت العام والمظهر الشخصي، إلا أن هذا الطرح يعدّه العلمانيون -الغربيون- طرحًا راديكاليًّا متخلفًا، منافيًا للحرية والتعايش، لكن أنصار الهوية الغربية جميعًا لم ينطقوا ببنت شفة مع ما حدث في فرنسا ضد الحجاب تحت شعار الهوية العلمانية، ولا ما حدث في كندا منذ أيام قليلة، حينما تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الكندية خبرًا عن منع الحجاب في مقاطعة كيبيك بالقانون رقم (21) الذي يحدد الملابس التي يجب أن يرتديها الموظفون في الهيئات والمنشآت التابعة للحكومة الكندية، ومن بينها منع الحجاب الإسلامي، وحتى العمامة التي يرتديها معتنقو العقيدة السيخية، مدللين بأنها لا تتناسب مع الثقافة الكندية ولذلك وجب منعها حفاظًا على الهوية الوطنية.

القرار خلّف صدمة في المجتمع الكندي القائم على الهجرة والتعددية الثقافية وهي أحد أبرز ملامحه، وقد كانت كندا تتشدق منذ وقت قريب بأنها من أكثر الدول تقدمًا في الحريات العامة والخاصة، وكان رئيس وزرائها جاستن ترودو أحد أبرز القادة المتقاربين جدًا مع التركيبة المسلمة في الدولة، وله حضور إعلامي متكرر وممنهج في مشاركة المسلمين أعيادهم ومناسباتهم الدينية، وكذلك مع السيخ والهنود حيث ارتدى الملابس الهندية ومنها العمامة الدينية في زيارته إلى الهند، لكن هذا لم يمنع المجلس التعليمي في مقاطعة كيبيك من تنفيذ هذا القانون.

لم يتوقف الأمر على إقرار القانون بل طبّقته المقاطعة، ومنعت مسلمة كندية تدعى “فاطمة أنفاري” وتعمل مدرّسة من مواصلة عملها إذا أصرّت على ارتداء الحجاب، مما دفع المعلّمة إلى التمسك بحجابها. وكان رد الفعل الأكبر من تلميذة في الصف الثالث الابتدائي، حيث كتبت خطابًا بسيطًا تداولته مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، وأثار الرأي العام عاطفيًّا، حيث كان خطابًا توديعيًّا يخص استبعاد معلمتها المفضلة بسبب حجابها الإسلامي. وتصف ذلك بأنه ليس من العدل، وكتبت الطفلة إيلين ويلسون “أنا أفتقدك حقًّا، لقد كنت معلّمة رائعة، أحببت الوقت الذي كنت تقرأين فيه الكتب لنا، أنا أرى أنه ليس من العدل أن تُمنعي من التدريس، أعتقد أن حجابك رائع حقًّا، أنت أفضل معلّمة على الإطلاق”. وأرفقت الطفلة خطابها برسم ملون لها، وهي تمسك بيد معلّمتها المسلمة مرتدية الحجاب.

ردود الفعل كانت الأقوى هذا الأسبوع تعاطفًا مع المعلّمة، مما دفع مكتب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إلى التصريح بأنه سيتخذ إجراءات قانونية ضد قانون مقاطعة كيبيك الذي حرم معلّمة من وظيفتها بسبب حجابها، مضيفًا أنه “لا ينبغي أن يفقد أحد وظيفته أبدًا في كندا بسبب ملابسه أو معتقداته الدينية”.

الإيجابي في الموضوع أن الكنديين في كيبيك استمروا في الضغط والتظاهر ضد القرار، مما دفع مسؤولًا  في إدارة المَدرسة إلى التصريح بأن المعلّمة نُقِلت إلى عمل مختلف بموجب قانون في المقاطعة، ولم تُفصل.

دور الرأي العام

وهنا نتوقف عند دور المجتمع وإيجابية الرأي العام الحر حتى الآن، حيث كانت ردود الفعل واضحة تعاطفًا مع رسالة الطفلة في هذا المجتمع المهاجر متعدد الثقافات والهويات، إذ تتباهى الحكومة الكندية بأن لديها مئات الأديان والأعراق والأجناس من المهاجرين والمواطنين، وأن اللغات الرسمية تجعل الإنجليزية والفرنسية متقاربتين في نسب الاستخدام لعدد السكان، وهناك عشرات اللغات التي يتم تداولها وتعليمها في مدارس خاصة. وبالتالي لا يُقارن المجتمع الكندي من حيث الهوية والثقافة المتنوعة منطقيًّا بمجتمع كالمجتمع الأفغاني، الذي لا تعدو التعددية فيه إلا في أعراق القبائل الأربع الكبرى (البشتون والطاجيك والأوزبك والهزارة) وجميعها تشكّل نحو 95% من السكان، والإسلام يمثل الأغلبية المطلقة للمواطنين، واللغة هي الفارسية بنحو 80%،‎ والبشتونية لغة محلية محدودة في القبائل، والتعدد الطائفي لا يخرج عن السنّة بأغلبية مطلقة، وأقلية من الشيعة، حتى التنوع المذهبي هناك ضئيل، ويجتمع الشعب على ثقاقات شبه موحدة تقريبًا، ومع ذلك فأيّ منصف يرى كيف تعامل الإعلام الغربي مع كلا الموقفين من دولتين بينهما مساحات شاسعة في التركيبة الثقافية وواقع التعايش.

وختامًا، فإن معركة اليمين المتطرف تحت مظلة الهوية لم تنته، وإن كانت مجابهة المجتمع له أفقدته المعركة الأولى، ولكن كما اعتدنا فإن هؤلاء لا يملّون من تمرير قوانينهم المجحفة باسم الهُوية، وتحت شعار “الإسلاموفوبيا”. وهكذا بدأت المعركة منذ عقود في فرنسا حيث واجه المجتمع باسم الحرية اليمين المتطرف قبل أن يستسلم وتُمرر قوانين القمع ضد الأقلية المسلمة، وهذا ما أحسب أن كندا ستتعرض له مستقبلًا، خاصة إذا وصل اليمين المتطرف إلى الحكم أو دفعته النزعات المتعصبة إلى تمرير قوانين مجحفة.

هنا تبقى الأسئلة: كيف ستتعامل كندا مع خمسة آلاف لاجئ أفغاني وعدت باستقبالهم وتعهدت بدمجهم في مجتمعها واحترام دينهم وثقافتهم وعاداتهم بعد وصول طالبان إلى الحكم؟ أم إن هؤلاء جميعًا اختيروا ضمن المتمردين على عاداتهم، وأن سبب لجوئهم إلى كندا أنهم قرروا عدم ارتداء الحجاب والملابس الأفغانية المرتبطة ثقافيًّا بسمت ديني كما يبدو؟ أم سيكون فقط محظورًا عليهم العيش في مقاطعة كيبيك؟

 

المصدر : الجزيرة مباشر