حدث في الصين: عشاء بملاعق ذهب على مائدة شيوعية!

صورة للرئيس الصيني

عقب موافقة أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، نهاية الأسبوع الماضي، على فتح باب الترشح للرئيسي الحالي شي جينبنغ، ليصبح رئيسا مدى الحياة، كلف (شي) أعضاء اللجنة والحزب، بتنفيذ برنامج” الرخاء المشترك”. أثار هذا البرنامج ذعراً لدى العديد من رجال الأعمال وبعض المستثمرين الأجانب، والأسر الثرية الذين اعتبروه، ارتدادا من الحزب الشيوعي عن النهج الرأسمالي في الاقتصاد، بعدما رأوه من هجوم كبير على شركات التكنولوجيا، والخدمات المالية والعقارية، وملاحقة عدد من رجال الأعمال، والمسؤولين المقربين منهم.

فهم الرئيس

تسرع البعض في فهم الرئيس الصيني، يرجع بالدرجة الأولى إلى غياب الشفافية في القرارات السياسية، وعدم وجود إعلام مستقل يتولى تفنيد هذه السياسات، بدلا من إعلام السلطة الذي يتحرك مثلنا بالريموت كنترول. مراجعة دقيقة لما طرحه الرئيس، تبين حجم المشاكل الخطيرة التي تواجه الصين، حاليا. فقد اكتشف (شي) بعد 9 سنوات على مقعد الرئاسة، وعقب إعلانه القضاء على الفقر، أن الطبقة الوسطى التي نمت في ظل الحزب الشيوعي، وتعتبر أكبر داعم سياسي له تتعرض للتآكل، وأن هناك فجوة كبيرة بين الفقراء والأغنياء، تزداد هوتها سنويا. وبخبرته السياسية، وجد أن تآكل الطبقة الوسطى وراء حالة التمزق السياسي في الولايات المتحدة، وتنامي الشعبوية والخلافات الاجتماعية في أوربا، وتعدد الثورات والانقلابات في العديد من أنحاء العالم.

قلق الرئيس

يشعر رئيس الصين بالقلق، مع حالة التململ التي عرفتها مؤخرا الأسر الصينية، في وقت يحاول فيه أن يقود العالم، بدلا من الولايات المتحدة عام 2049، في موعد الاحتفال المئوي للحزب الشيوعي باستيلائه على السلطة. لذلك يسعى من خلال” الرخاء المشترك” توسيع كعكة المستفيدين من الحلم الصيني، وتقليل فجوات الثروة، التي خلفت جيلا من الشباب لا يجد فرصة عمل من دون أن يكون من أبناء الحزب أو مقرباً من القطط السمان التي تدير البلاد. كما تبين الأرقام زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ليست في الدخل فقط بل في الخدمات وعلى رأسها التعليم. أصبح التعليم طبقياً في مدارس الدولة، حيث يوزع الطلاب وفقا لمستواهم المادي والاجتماعي، والسكني ويدخلون الجامعات الحكومية وفقا لقدراتهم المالية في الإنفاق على الدروس الخصوصية والحصول على خبرات وقدرات خاصة، لا تقدر على توفيرها إلا الطبقات العليا في المجتمع. فرغم انتهاء الفقر رسمياً، من الصين إلا أن هناك نحو 350 مليون شخص يحصلون بالكاد على الحد الأدنى للمعيشة والدخل وفقا للمستويات المحددة من الأمم المتحدة والبنك الدولي. كما يعيش 36% من الصينيين في الريف، في ظروف إنسانية صعبة للغاية، بينما الريف الأمريكي الذي يعيش به 17% من السكان أغلبهم يتمتعون بكل وسائل الحياة والرفاهية الموجودة في المدن.

دعوة على مائدة عشاء:

مشكلة شي جينبنغ، بعد أن أطلق عليه الحزب الشيوعي لقب “القائد العام”، وهو لقب رفعه لمرتبة الخالدين في قيادة الحزب والدولة مثل الزعيم ماو تسي تونغ، وصاحب النهضة الاقتصادية دينغ شياو بنغ، يريد الرخاء للجميع، مع إظهار إخلاصه للماركسية اللينينية، عقيدة الحزب الحاكم، التي يريد من الشعب الخضوع التام لها، والإيمان بما تفرزه من سياسات، وأن يضمن أن تصبح هذه العقيدة هي الدافع الأول لدى الصينيين في طريقه لسيادة العالم.

يرى البعض هذه مبالغة من الرئيس، ولكنها العادة التي تحرك النظام السياسي في الصين وما يشبهه من الأنظمة الديكتاتورية، فقد رأيت بأم عيني التناقض الرهيب الذي يعيش فيه الحزب من الداخل. فذات مرة دعيت لمأدبة عشاء، في “قاعة الشعب الكبرى” مع الوفد البرلماني المصري الذي زار بيجين في شهر أكتوبر عام 2007، برئاسة الدكتور فتحي سرور رئيس البرلمان الأسبق، وعضوية الراحل كمال الشاذلي وزير مجلسي الشعب والشورى والوزير الدكتور مفيد شهاب، والدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية الأسبق، وعدد من كبار البرلمانيين والصحفيين. توجهنا للقاعة مساء بعد لقاء مع رئيس مجلس الدولة وان جيا باو، وطفنا قبل الدخول بقاعة الاجتماعات الكبرى، التي يفتخرون بتطوع 500 ألف صيني في بنائها، لتكون مقرا لبرلمان الشعب، خلال عدة أيام. كان في استقبالنا نائب رئيس مجلس النواب إسماعيل أحمد وهو آخر مسلم تقلد منصبا هاما في الصين، الذي حرص على تقديم الوجبات وفقا للشريعة الإسلامية، والتي اختفت الآن من الموائد الرسمية.

عند جلوسنا في العشاء الفاخر، فوجئت بأن أطقم أدوات المائدة من الذهب الخالص، حتى العصا التي يأكل بها الصينيون، من العاج والذهب، فضحكت وانتقلت لزميل صيني مرافق للوفد، سألته هل هذه من الذهب حقا؟ قال: نعم، قلت: أهذه مقتنيات من العصر الإمبراطوري؟، قال: متعلقات الإمبراطور وأسلافه تجدها في “المدينة المحرمة” حيث مقر أسر الإمبراطور، وأخرى في تايوان، ومتاحف كثيرة. كررت متعجبا: هل هي من الذهب الخالص؟، قال، نعم: هي تصنع خصيصا للموائد الرسمية، والأطباق خزف مزينة بالذهب. أثارت ضحكتي فضوله، فقال لُما تتعجب؟، قلت: نحن في المركز من قلب النظام العالمي للماركسية ونأكل بملاعق من الذهب، فبغض النظر عن ذلك محرم على المسلمين، فإني أتعجب كيف يحدث هذا في نظام ماركسي لينيني شديد التمسك بالشيوعية القحة. قال: يا صديقي أنها من أجل الاحتفاء بكم والزائرين الكرام الكبار أمثالكم. حرصت على تصوير الأدوات والحفل الامبراطوري، وعدت مرة أخرى إلى مكاني بين الزملاء المصريين، فرأيت الزميل محمود مسلم الذي يشغل حاليا رئيس تحرير جريدة الوطن والقنوات المملوكة للأجهزة الأمنية السيادية، يتعارك مع زميل آخر، أراد أن يضع ملعقة في جيبه، باعتبارها تذكاراً، من الحزب الشيوعي، فنهرته معه بشدة، محذرا له بأننا تحت الرقابة، فإذا ما حدث ذلك ستكون فضيحة لنا جميعا.

نوايا الرئيس

حاول شي جينبنغ في بداية وصوله للسلطة عام 2012، وقف البذخ الرهيب الذي كنا نشاهده في الموائد الرسمية للحزب والجهات التي كنا نزورها على مدى سنوات، فطلب تقليد الأمريكيين الذي يأخذون بواقي الموائد معهم وتوزيعها على الفقراء، فإذ بالنفقات تزداد، بعد أن أصبح منظمو الموائد، من الحزب والحكومة، يطلبون مأكولات ومشروبات كثيرة وفارهة، باسم الوفود المشاركة في المآدب الرسمية، لتتحول إلى بيوتهم مباشرة. عندما استفحل الأمر، حدد الرئيس لكل جهة ميزانية وعدد مناسبات للحد من الإسراف والسرقة.

استمر الإسراف قائما لسنوات حتى حسمه الرئيس بنفسه، وهو سمة الأنظمة التي لا تجد صحافة تردعها ولا شعبا يسمح له بأن يكون شريكا في الإصلاح. وهكذا الرخاء المشترك الذي استهدفه (شي)، بدأ برغبته في اصلاح أجواء الصين التي يصعب التنفس في أغلب مدنها، وتسوَدٌ السماواتٌ لعدة أسابيع طوال العام. مع الاستعداد لدورة بيجين الشتوية مطلع 2022 طلب الرئيس من المسؤولين وقف محطات الفحم، بهدف تقليل الانبعاثات الضارة، ورفع كفاء محطات الغاز والطاقة الجديدة، وتحسين أمان المناجم، والحد من الفساد في تشغليها، الذي يؤدي إلى موت عشرات العاملين يوميا.

نوايا الرئيس، حولها البعض إلى ثروة لجيوبهم، حيث انتشرت عمليات تهريب الفحم وبيع مولدات الديزل في السوق السوداء إلى أن وقعت أزمة نقص الطاقة، بسبب رغبتهم في رفع معدلات تشغيل كل المصانع لمواجهة زيادة الطلب على المنتجات الصينية مع عودة الأسواق لطبيعتها في العالم. هذا الفساد يجري برعاية أعضاء الحزب في الأقاليم، بما دفعهم إلى طلب تأجيل تحقيق هدف” الرخاء المشترك” من عام 2025 إلى عام 2035. فعندما يريد (شي) مشاركة أكبر عدد من الموطنين في كعكة الرخاء والازدهار، فهو في حقيقة الأمر يوفر كعكة كبيرة للفاسدين في نفس الوقت. فهؤلاء هم الذين يدفعونه لمحاربة رجال الأعمال والعائلات الصينية، للتخلي عن ” تطلعات الثروة والعيش في مستوى الرخاء المعتدل”. كما أجبروا أكبر 10 شركات على التبرع بنحو 100 مليار يوان لجمعيات خيرية يديرها الحزب الشيوعي، رغم عدم الشفافية في توزيع الموارد ولا معرفة المستفيدين منها. وتشتهر المؤسسات الخيرية في الصين بالفساد، وتوجيه مدفوعات فاسدة وقع فيها نجل الزعيم دينغ شياو بنغ، الذي حوكم بعد وفاة أبيه بتلقي تبرعات كرشوة مقابل تسهيل خدمات رسمية لرجال أعمال.

يواجه (شي) وضعا اقتصادياً صعباً، دفعه للشروع في ثورة على الأثرياء والمشاهير، وبينما يسير نحو اشتراكية جديدة لم يحدد معالمها بدقة، لقيادة الصين الوطنية المؤهلة لإدارة العالم، يفقد القدرة على إصلاح الحزب من الداخل، لأن الفساد السياسي متبادل بين القادة والأعضاء ولا يمكن وقفه بدون صحافة حرة وشعب قادر على التعبير عما يجول بخاطره، فلا يكفي أن يقول الرئيس على الطريقة المصرية ” تحيا الصين ” 3 مرات فتصبح أمنياته واقعاً.

فالشعارات وحدها لا تكفي، بل توظف كثيراً في تنمية الفساد والفاسدين في الصين كما في مصر وأنحاء المعمورة.

المصدر : الجزيرة مباشر