تركيا بعد التهديدات الأمريكية

رغم أن اجتماع سوتشي بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، والذي استغرق أكثر من ثلاث ساعات، كان يهدف في المقام الأول إلى التباحث حول الخلاف في وجهات النظر المرتبطة بتداعيات الملف السوري، والتطورات على الأرض، بعد قيام موسكو بتكثيف عملياتها العسكرية، وتصعيد ضرباتها الجوية على إدلب الواقعة تحت السيطرة التركية، بما ينذر باحتمال حدوث مواجهة عسكرية بين البلدين، وإمكانية بدء موجة هجرة جديدة للاجئين لا تريدها أنقرة، ولا تتحمل تداعياتها، إلا أن ما تمخض عنه الاجتماع فعليا، وما تلاه من تصريحات المسؤولين في كلا البلدين جاء بمثابة مفاجأة للجميع.

صفقة منظومة الدفاع الجوي

المفاجأة كانت في أن معظم ما دار في الاجتماع وما تمخض عنه من نتائج تمحور حول توطيد العلاقات الثنائية، وزيادة حجم التعاون بين البدين في كافة المجالات السياسية والعسكرية والتجارية، وكأنه جاء ردا عمليا مباشرا من جانب تركيا على التصعيد الذي تشهده علاقاتها مع الإدارة الأمريكية، ولغة التهديد التي أصبحت السمة الغالبة في تصريحات المسؤولين الأمريكان عنها، خصوصا ما يخص سياستها في المنطقة أو تحركاتها الديلوماسية.

وفي هذا الإطارأعلن الرئيس أردوغان أنه لن يتخلى عن صفقة منظومة الدفاع الجوي إس – 400، كما أكد استعداد بلاده لتوسيع نطاق التعاون مع روسيا في هذا المجال، مشيرا إلى أنه اتفق مع نظيره الروسي على تطوير تعاونهما في مجال الطاقة، وزيادة عدد المحطات النووية التي تقيمها روسيا في الأراضي التركية، إلى جانب التعاون في مجال الفضاء، والدخول في إنتاج مشترك لصناعة المقاتلات الحربية ومحركات الطائرات، وبناء السفن الحربية، وزيادة حجم التعاون التجاري والاستثمارات بين البلدين إلى 100 مليار دولار بدلا من 21 مليار دولار.

وكأن تركيا أرادت بذلك الإعلان تدشين مرحلة جديدة تماما، تختلف عن سابقاتها، في تحديد مجال أولوياتها الاستراتيجية، وعلاقاتها الدبلوماسية، بما يخدم مصالحها ويحافظ على أمنها القومي، متجاهلة عن عمد التحذيرات الأمريكية التي صدرت إليها، وجاءت على لسان مسؤولين في إدارة بايدن، سواء تلك المرتبطة بفتح الباب أمام إمكانية التباحث المباشر مع نظام بشار الأسد، أو من زيادة حجم التعاون العسكري مع روسيا.

تهديدات بفرض عقوبات أمريكية

فالخارجية الأمريكية استبقت اجتماع سوتشي بين أردوغان وبوتين بتحذير أنقرة من السير قدما في طريق توسيع نطاق تعاونها العسكري مع موسكو، والقيام بشراء أي معدات عسكرية روسية جديدة، كون ذلك من شأنه أن يضعها تحت طائلة عقوبات أمريكية جديدة بموجب قانون كاتسا، وهو القانون الذي تم لإقراره عام 2017 والمعروف باسم ” مواجهة خصوم أمريكا من خلال العقوبات” وينص تحديدا على فرض عقوبات تلقائية في حال إقدام دولة ما على إبرام “صفقة كبرى” مع قطاع صناعة الأسلحة الروسية.

وردا على تلك التهديدات جاء تصريح أردوغان الخاص بالإصرار على صفقة منظومة الدفاع الجوي أس – 400، بل وإحتمال إبرام أخرى، وتوسيع نطلق التعاون العسكري مع روسيا.

الخارجية الأمريكية حذرت كذلك من خطوة التفكير في التباحث المباشر مع نظام بشار الأسد، كون الإدارة الأمريكية ليس لديها حاليا خطط لتطبيع علاقاتها مع بشار الأسد أو تخفيف العقوبات المفروضة على نظامه طالما لم تشهد تغييرا ملموسا في سلوكه، أو رغبة حقيقية منه للوصول إلى حل سياسي ينهي الأزمة السورية.

وهو التصريح الذي أثار غضب دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وشريك حزب العدالة والتنمية في الحكم، الذي رد بالقول “على واشنطن أن تدرك أن قرار تركيا قرار سيادي، وأن تحركاتها تأتي في إطار الحفاظ على مصالحها وتحقيق أمنها القومي وأمن شعبها، وأنها ترفض الخضوع لأي إملاءات خارجية”.

 قبول أنقرة الحوار مع الأسد

ورغم أن إعلان الكرملين عقب إنتهاء اللقاء جاء مختصرا خاليا من أي تفاصيل يمكن التعويل عليها حول الخطوات المقبلة التي سيتم اتخاذها في المسألة السورية، إذ ذكر فقط أن الملف السوري تم بحثه إلى جانب قضايا أخرى كأفغانستان وليبيا، وأن الاتفاق بين الرئيسين تركز حول أهمية تنفيذ الاتفاقيات التي سبق إبرامها بين الأطراف الفاعلة في هذا الملف.

إلا إن تصريحات الرئيس أردوغان، رغم غموضها، أوضحت أن هناك اتفاقاً تركيا روسياً للعمل سويا من أجل إيجاد حل دائم يتجاوز في مجملة التفاصيل من أجل وضع تصور نهائي للخطوات المشتركة التي سيتم اتخاذها، مؤكدا على إنفتاحه على أي خطوات واقعية وعادلة في هذا الاتجاه، يمكن بمقتضاها إنهاء أزمة مستمرة منذ سنوات، دفعت المنطقة بأسرها تكاليف باهظة لها، إلى جانب ما خلفته من مأساة إنسانية شكلت عبء اقتصاديا على الجميع.

الحديث حول الخطوات المشتركة، وتجاوز التفاصيل، والإنفتاح على أي حلول تنهي تلك الأزمة، أكد بما لا يدع مجالا للشك ما سبق وأن أعلن عن إمكانية توسيع نطاق التعاون الإستخباراتي الجاري بين تركيا والأجهزة الأمنية السورية، والتحول إلى إجراء مباحثات علنية دبلوماسية مباشرة بين تركيا ونظام بشار الأسد خلال الفترة المقبلة، مثلما حدث مع كل من مصر والإمارات والسعودية.

الخوف من تكرار سيناريو شمال العراق

هذه الخطوة في حال حدوثها من جانب تركيا، لن تكون فقط لتلبية رغبة حليفتها روسيا، لدعم نظام الأسد، ولا إرضاء لأحزاب المعارضة لديها، وإنما ستأتي في إطار سعيها لتحقيق أمنها القومي، وإزالة مخاوفها المرتبطة بالنتائج التي يمكن أن يسفر عنها التعاون الأمريكي المستمر مع التنظيمات الكردية في الشمال السوري، مثلما سبق وأن حدث في شمال العراق.

فأنقرة ومنذ بداية الأزمة السورية تخشى أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة تطبيق نفس السيناريو الذي تم تنفيذه في الشمال العراقي عقب الحرب الأمريكية على نظام صدام حسين، لتجد نفسها أمام أمراً واقعاً تم فرضه عليها فرضا من جانب حليفتها التي لم تراع في ذلك العلاقات الأستراتيجية التي تربطهما، ولم تقم وزنا للخدمات التي قدمتها لها تركيا قبل أو أثناء حربها على العراق.

إذ قامت القوات الأمريكية آنذاك بترك كافة أسلحتها لقوات البشمرجة الكردية بقيادة مسعود البارزاني قبيل مغادرتها شمال العراق في طريقها إلى بغداد، حيث قام الأكراد عقب ذلك بإعلان إنفصال شمال العراق عن الحكومة المركزية في بغداد، ثم تم إعلانها منطقة حكم ذاتي كردية.

المخاوف التركية من تكرار ذلك السيناريو هو ما دفع تركيا إلى التدخل العسكري في سوريا منذ بداية الأزمة، وتحديدا في مناطق الشمال، خصوصا وأن هناك الكثيرة من الدلائل التي أكدت قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتسليح وتدريب التنظيمات الكردية الموجودة في الشمال السوري، تحت زعم مشاركتها في حربها ضد تنظيم الدولة ” داعش”، إلى جانب قيام عدد من المسئولين الأمريكيين بزيارة قيادات تلك التنظيمات، والتواصل معهم بصورة مستمرة، بل ووصل الأمر إلى دعوة بعضهم لزيارة واشنطن، في تجاهل تام لكافة الاعتراضات التي أبدتها أنقرة تجاه تلك التصرفات الأمريكية.

لذلك يبدو من الطبيعي بل والمنطقي تفكير أنقرة في إمكانية التعاون مع نظام بشار الأسد، فربما يمثل ذلك السبيل الوحيد أمامها الآن، بعد زيادة حدة توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة، للحفاظ على الوحدة الجغرافية للأراضي السورية، وبالتالي ضمان قطع الطريق على تنفيذ أي مخططات تستهدف قيام دولة كردية جديدة ملاصقه لحدودها، الأمر الذي قد يشجع -من وجهة نظرها- النزعة الإنفصالية لدي الأتراك من ذوي الأصول الكردية على المطالبة بإقامة دولة لهم في جنوب شرق الأناضول.

المصدر : الجزيرة مباشر