الفلسطينيّون لا ينوبونَ عن الأمّة إذ يدافعونَ عن فِلَسطين

 

طالما سمعنا عبارةً تكرّرها ألسنةُ الدّعاة والخطباء والسّياسيّين كلّما جاء الحديثُ في إطارِ الإشادة بدفاع الفلسطينيّين عن القدس والمسجد الأقصى وعن فلسطين عمومًا ومواجهتهم الكيان الصّهيونيّ، وهي أنّ الفلسطينيين ينوبون عن الامّة في دفاعهم عن فلسطين، أو أنّ المرابطين في المسجد الأقصى ينوبون عن الأمّة في حمايتهم مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذه العبارة لكثرة استعمالها من شخصيّاتٍ لها مكانتها ورمزيّتها تؤدّي مع الزّمن إلى إحداثِ قناعاتٍ غير صحيحة ولهذا كان من الضّروريّ التّوقّف مع معانيها ومدلولاتها.

معنى النّيابة وأثرها الشّرعيّ

النّيابةُ في اصطلاح الفقهاء هي: قِيَامُ الإِنسانِ عَنْ غَيرِهِ بفِعلِ أَمرٍ من أمورِ العباداتِ أو التّكليفاتِ الشرعيّة.

وهي تصحّ في العبادات الماليّة المحضة كالزَّكَاةِ والصَّدقاتِ والكفَّارَاتِ والنُّذورِ، وهذا النَّوعُ من العِبَاداتِ تجوزُ فِيه النِّيابةُ على الإِطلاقِ.

وفي العبَاداتُ البدنِيَّة كالصَّلاة والصِّيامِ؛ لا تَجوز النِّيابَة على الإِطلاقِ بِاتِّفَاق الفُقَهاءِ بالنِّسبةِ لِلحيِّ، وهناك اختلافٌ فيها بالنّسبةِ للميّت.

وهناك عباداتٌ مشتملةٌ على البدن والمال كالحجّ والعمرة؛ وقد فصّلَ الفقهاء في مسألة النيابة عن الغير فيها تفصيلاتٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع بيانها.

وما يهمّنا هنا بيانُه أنّ أهمّ آثارِ النيابةَ عن الغيرِ في العبادة هو براءةُ ذمّةِ من تمّت النّيابةُ عنه وأداء الفرض عنه وسقوط الإثم المترتّب على عدم قيامه بهذا الفعل ونيلُه الأجر والثّوابَ والفضل.

فلو نابَ أحدٌ عن آخر في دفع الكفّارات الواجبةِ عليه أو أداء الزّكاة المفروضة عليه على سبيل المثال؛ فإنّ هذا يعني براءة ذمّته وسقوط الفرض عنه ونيلَه الأجر بأداء الفعل نيابةً عنه.

النّيابةُ في الجهاد في سبيل الله تعالى

الجهادُ في سبيل الله تعالى هو من أعظم العبادات وهو ذروة سنام الإسلام وهو العبادة التي يتشرّفُ أهل فلسطين بأدائها والقيام بحقّها ردًا لعدوان الكيان الصّهيوني الغاصب، وهو فرضٌ عليهم بل فرضٌ على كلّ قادرٍ في الأمّة الإسلاميّة بمعناه الواسع الذي هو أوسع من مجرّد القتال.

فهل تصحّ النّيابةُ في الجهاد؟ وهل ينوبُ أحدٌ عن أحد في الجهاد في سبيل الله تعالى؟

اتّفق الفقهاء على فساد النيابةِ في الجهاد وعدم صحّتها بكلّ أحوالِها سواءً كانت مقابل مالٍ أو بدون مقابل، وذلك لأنّ النيابة تصحّ في بعض الأحيان مقابل جعلٍ ماليّ كأن ينوبَ أحدٌ في الحجّ عن ميّت مقابل مالٍ يأخذه، وهذه النيابةُ لا تصحّ في الجهاد أبدًا لا بمقابل ولا دون مقابل.

وقد أسهب الإمام الماورديّ في كتابه الحاوي الكبير في بيان فساد النيابة في الجهادِ وعدم صحّتها مطلقًا؛ فقال:

“لا يجوز لأحد أن يغزو عن غيره من أعيان الناس بجعلٍ أو غير جعلٍ، لثلاثة أمور:

أحدها: أنه إذا التقى الزَّحفان تعيَّن فرضُ الثّبات عليه، فلم يجُز أن ينوبَ فيه عن غيره كالحجّ، لا يجوز أن ينوبَ فيه عن غيره إذا كان عليه فرضُه.
والثاني: أنه يدفعَ إذا حضرَ الزَّحفَ عن نفسه ، ويقصد حقن دمه؛ فلم يجُز أن يدفع عن نفسه بعوض على غيره .
والثالث: أنّه يملك لحضور الوقعة سهمه من الغنيمة، ولو صحّت الجعالة لملكه صاحبها دونه .
فإن قيلَ: لو حجّ عن نفسِه جازَ أن يحجّ عن غيرِه بجعلٍ وغير جعلٍ، فهلّا جاز إذا غزا عن نفسه أن يغزوَ عن غيره بجعلٍ أو غير جعل .
قيل : لأنَّ فرضَ الحج لا يتكرّر فصحّت فيه النّيابة ولو تكرر فرض الحج في كلّ عام بأن قال: إن شفى الله مرضي فللّه عليّ أن أحجّ في كلّ سنة لم تصح منه النيابة لبقاء فرضه عليه كالجهاد، فإذا صحّ فساد النّيابة في الجهاد وجب على الغازي رد الجعالة، وكانت دينًا عليه إن استهلكها”

ومن دفعَ مالًا للمجاهدينَ في سبيل الله فهو يدفعه عن نفسِه ويعدّ مجاهدًا بالمال في سبيل الله تعالى، وهذا واجبٌ عليه، ولا يدفعه ليقوم الآخرون بالجهاد نيابةً عنه، وقد بيّن هذه النّقطة أيضًا الإمام الماوردي إذ يقول:

“ولكن لا بأسَ أن يبذلَ الإنسانُ مالًا يبرّ به الغازي والحاجّ.
وفاعلُ البرّ معونة له ليكون للباذل ثواب بذله، وللعامل ثواب عمله؛ لأنّه ينوبُ فيه عن نفسِه لا عن باذل المال.
روى زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: من جهّز غازيًا أو حاجًّا أو معتمرًا أو خلَفه في أهله فله مثل أجره.
وروي عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: للغازي أجره، وللجاعِل أجره وأجر الغازي”

فالخلاصةُ إذن هي أنّ النيابةَ في الجهادِ فاسدةٌ ولا تصحّ ولا ينوبُ أحدٌ عن احدٍ في الجهاد في سبيل الله تعالى، والمجاهدون ينوبون عن أنفسهم فقط لا عن غيرهم، وكذلك من يساندُ المجاهدين بالمال أو الدّعم فإنّه يفعلُ ذلك عن نفسه ولا ينوب عن غيره، فالجهاد بأشكاله كافّة بالنفس والمال والكلمة هو من العبادات التي لا ينوبُ فيها أحدٌ عن أحد.

فرقٌ بينَ الدّفاع عن الأمّة والنّيابة عنها.

الفلسطينيّون إذن ينوبونَ عن أنفسهم ويقومون بواجبهم ويؤدّون الفرض عليهم بدفاعهم عن فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك، ولا ينوبون عن أحدٍ من الأمّة بفعلهم هذا.

ولكنّ هذا لا يلغي أنّ الفلسطينيين هم اليوم خطّ الدّفاع الأوّل عن الأمّة كلها ورأس الحربة في مواجهة المشروع الصّهيونيّ وحلفائه وداعميه.

نعم؛ الفلسطينيّون لا ينوبون عن الأمّة في جهادهم لكنّهم يدافعون عنها ويصدّون المشروع الصّهيونيّ ويشاغلونَه ويدافعون عن المسلمين.

وقد يقال فعلامَ كلّ هذا الجهدُ لتأكيدِ أنّهم لا ينوبون عن الأمّة بينما هم يدافعون عنها؟

صحيحٌ أنّ كثيرينَ ممّن يقولون عبارة نيابة الشّعب الفلسطينيّ عن الأمّة لا يقصدون بالضرورة المعنى المشتمل على إسقاط التّكليف، لكنّ تكرار العبارات من أهل الفضل والرّموز الموثوقين في مجال الدّعوة والسّياسة على آذان السّامعين يجعلها مع الزّمن حقائق مستقرّة ويجعل لها دلالات وآثارًا، ومن أخطر آثار استقرار فكرة أن الفلسطينيين ينوبون عن الأمّة أن يخفت الشّعور بوجوب الجهاد على الأمّة بمجموعها وأفرادِها دفاعًا عن فلسطين والمسرى.

والأخطر من ذلك أنّ هذا يقودُ مع الزّمن إلى “فلسطنةِ” القضيّة بجعلها قضيّةً فلسطينيّة خالصةً ينوب فيها أهلها عن الآخرين، بينما ينبغي أن يعمل الجميع على إعادة القضيّة الفلسطينيّة إلى عمقها الإسلاميّ لا سيما في ظلّ حمّى التّطبيع التي تتزايدُ يومًا بعد يومٍ بوقاحةٍ سياسيّة وإعلاميّة لا مثيل لها.

فعلى المسلمين أن يوقنوا أنّ قيام الفلسطينيين بواجبهم تجاه فلسطين والقدس والأقصى لا يعفيهم من المسؤوليّة المفروضة عليهم جميعًا تجاه مسرى نبيّهم وأرض البركة فلسطين.

وعلى المتحدّثين من الرّموز الدّعويّة والشّرعيّة والسّياسيّة أن يتحرَّوا عباراتِهم وألفاظهم ويعتنون بانتقائها حتّى لا يسهموا بتكريسِ معانٍ مغلوطة تنتجُ آثارًا سلبيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة وغيرها من قضايا الأمّة من حيث لا يشعرون.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه