في وطني «كورونا»

عودة للكتابة فالكتابة قدر الأشقياء في الدنيا.

ومن الذي يستطيع الكتابة عن أمر غير الكورونا وما أدراك ما الكورونا.

ما علينا ندخل في الموضوع، فلا يوجد لدينا وقت، فالأعمار أضحت قصيرة بعد أن فاق ما حصدته كورونا من أرواح أضعاف ما حصده أصعب الأمراض في السنوات العشر الماضية، ولكن إحقاقا للحق لم تتبوأ كورونا حتى الآن المرتبة الأولى في المسببات الاستثنائية لحصاد الأرواح في مصر، فما زال الرقم القياسي في مصر يقف عند مناسبة ثورة 2011 حتى 2013 وكل ما شملته هذه الفترة من أحداث ومذابح كان ضحاياها أضعاف ضحايا كورونا، فإذا أضفنا ضحايا توابع هذه الفترة في السنوات ما بين 2013 وحتى 2020، تتراجع بشاعة كورونا كوباء حاصد للأرواح، ورغم ما نعيشه من رعب كوروني أكثر بكثير من رعب سنوات القتل والمذابح والسجون والاعتقالات والاختفاء القسري، فيبدو أن الرعب والخوف يخضعان لمعايير فوقية تفرض نفسها على هذا الشعب المسكين، فتتسع مساحه خوفه ورعبة وإحساسه بالأمان بالقدر المرسوم له!!

المشهد الكورني

ما علينا فلنحاول الرجوع لموضوعنا، التناقضات التي احتواها المشهد الكوروني في مصر فاق كل حدود المنطق، وهو ما أثر بكثير على الأداء الحكومي الرسمي والشعبي في مواجهة الوباء أو الجائحة كما يحلو لبعض المصريين تسميته، الدولة المصرية استقبلت المرض بمنظومة صحية واقتصادية منهارة باعتراف حاكمها، وشعب خارج حدود وإطار اهتمام النظام الحاكم الذي فضل بناء مدن للصفوة وعاصمة للأثرياء وقصور رئاسية على توفير ميزانية للنهوض بمواصفات الشعب سواء في التعليم أو الصحة أو حتى حياة كريمة تحت شعارات أطلقها زعيم النظام كحقائق مفروضة مثل «أنتم فقراء قوي»، «ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع»، «ما عنديش أديكم»، «انتم بتاكلوا كتير»، وصاحبها سياسات قلصت كل الميزانيات المتعلقة بالنهوض بالمواطن في الصحة والتعليم والاستثمار الوطني.

فكسر النظام «نفس» المواطن وجعله يفقد الأمل في أي حياة كريمة واكتفى بنعمة الحياة والتنفس، حتى جاءت الكورونا لتفرض عليه تحد ٍحتى مع حق الحياة بلا أمل، واستقبلها المواطن المصري باستسلام في ظل اقتناعه بأنه مواطن فقير في بلد فقير لن يوفر له شيء حتى ظهر التناقض الأول الذي أربك المواطن وأخرجه من صبره واستسلامه لواقع مفروض عليه، عندما وجد النظام الحاكم لدولته الفقيرة يستقبل مرض كورونا بارتدائه رداء الدول الكبرى الثرية ليعلن إرساله تبرعات ومعونات لدول كبرى وثرية مثل إيطاليا والصين، بل إعلان استعداده لمساعدة دول كبرى أخرى، بينما يقف الشعب مصدوما وحائرا بين حالة الفقر والعدم والانهيار التي عاشها السنوات الماضية جعلته يقبل المرض باستسلام، وبين هذا السلوك الغريب من حكومته التي أرسلت مساعدات لدول ثرية ومتقدمة في المجال الصحي دون توفير أي رعايه له، ولنتذكر في بداية الأزمة من ماتوا على أبواب المستشفيات وفي بيوتهم لعدم توفر أماكن للرعاية.

اليقظة

ومنذ هذه اللحظة استيقظ الشعب المصري من استسلامه، وايقن أنه استسلم لأكذوبة كبرى وبدأ خطوات التحدي لمواجهة المرض ولكن ليس بالصراع مع النظام الذي بدد بالفعل كل موارده، ولكن بكل الأدوات الشعبية المتاحة للشعب، وأرجأ صراعة مع النظام الذي نهبه وبدد قوته وثروته في شراء رضاء الغرب وحمايته من غضب شعبه.

واكتشف النظام خطورة أن يملك الشعب قراره ويواجه مشاكله بنفسه فتعود ثقته بنفسه ويخرج النظام الحاكم من المعادلة، فيحدث مثلما حدث مع خورشيد باشا الوالي العثماني عام 1805 عقب تحقيق شعب مصر نصرا شعبيا على الفرنسيين فعزلوه رغم مباركة خليفة المسلمين في تركيا له، وهنا أسرعت الحكومة المصرية، لعلة سياسية، في محاولات الالتحام بالشعب ومساندته وإنقاذه من الجائحة أو الكارثة ولكن بالإمكانيات الهزيلة بعد أن بدد النظام كل موارد الوطن في تمكين نفسه وترفيه رجاله وشراء مباركة الغرب وحمايتهم له، فكان حظر التجوال ومنح العاملين في الدولة إجازات مفتوحة، ومحاولة توفير المطهرات والماسكات الواقية بأسعار مناسبة رغم صعوبة هذا الأمر، وتم فتح المستشفيات بكل قوتها لاستقبال الحالات المصابة، ولكن بدون أي استعدادات في هذه المستشفيات المصابة بفقر في الإمكانيات وفي مستوى تقديم الخدمات الصحية منذ زمن للأسباب التي سبق وأن ذكرتها، وهو ما أدى لكارثة مؤلمة حيث تفشي المرض بين الأطباء المعالجين وهيئة التمريض ودفع العديد منهم حياته ثمنا لالتزامه بالقيام بدوره في ظل عدم وجود إمكانيات ولا حماية ولا وقاية له.

حتى أنا كاتب المقال وقعت في تناقض بين مباركتي لتحركات الحكومة الأخيرة ومحاولة الالتحام بالشعب، وبين تحميلها مسؤولية الحال الذي وصلنا إليه نتيجة فساد الحكم وديكتاتوريته وانحيازه لطبقة الأثرياء ورجال الأعمال وكبار الموظفين والمحيطين به وتدنيه بمستوى الخدمات الصحية وعلاقات العمل وما ارتبط بهما من انهيار اقتصادي، فجعلنا عاجزين عن مواجهة الأزمات والكوارث سواء كانت أمراضا أو عوامل طبيعية مثل الأمطار والسيول التي غرقنا فيها، نتيجة فساده وديكتاتوريته.

المتناقضات المجتمعية

كان التناقض الأول الذي رصدته يتعلق بالنظام والحكومة، وحاولت أن أغض البصر عن التناقض داخل الشعب والمجتمع، فأنا بحكم تربيتي اليسارية منحاز للشعب انحيازا غير موضوعي يشبه انحياز حماتي لأبنائها.

ولكن في الحقيقة كانت صدمتي شديدة عندما فوجئت بحادث رفض قرية كاملة دفن طبيبة ماتت بفيروس كورونا وهي تقوم بدورها في المستشفى، ومنعوا أهلها من الوصول لمقابر القرية خوفا من انتقال العدوى لولا تدخل الشرطة ودفنها بالقوة، ومن قبله حادث امتناع أبناء عن استلام جثة أمهم المتوفية بكورونا ودفنها.

حوادث تسببت لي في الإحساس الشديد بالانزعاج والقلق، فهي حوادث غريبة على الشعب المصري وتركيبته وخاصة في الأزمات، حتى في ظل الرعب من الموت، فالمصريون الفقراء البسطاء هم من عاونوا الدكتور الشاب نجيب محفوظ عام 1902 في البحث عن الآبار المخفية والملوثة داخل القرى وقت انتشار وباء الكوليرا، وساعدوه في تطهيرها، دون أي تصرف أناني أو خوف من الموت.

المصريون في عام 1947 عندما عاد وباء الكوليرا لمصر مع بعض فرق الاحتلال الإنجليزي، أقاموا وحدات لعزل المرضى في الأماكن المتسعة، وكانوا يرشون الجير على جثث الموتى ويدفنوهم بكل احترام وإجلال يليق بالموت، وهم الذين جمعوا تبرعات من ملاليم الفقراء وقت الاحتلال لتصل قيمة التبرعات لـ70 ألف جنيه أعطوها للصحة لمواجهة المرض، هذا هو تصرف المصريين في ظل أزمات مشابهة للأزمة الحالية بل كانت أكثر ضراوة، فما الذي استجد هذه الأيام ليصل ببعض المصريين إلى هذه الحالة من الانهيار القيمي المفاجئ، وأقول المفاجئ لأن المصريين بالأمس القريب وتحديدا وقت ثورة 2011 كانوا يفتحون صدورهم لطلقات الرصاص لإنقاذ زملائهم، فما الذي حدث، وهل الذي حدث حقيقي أم مفتعل لغرض ما؟

وكما قلت في السطور السابقة أن توحد الشعب على قلب رجل واحد وقيادته معاركة بنفسه يؤرق الحكام المستبدين، فثقة الشعوب واستقلالها أكثر ما يرعب الحكام وخاصة لو كانوا مستبدين، ولهذا تسعى الحكومات لتفريقهم وشغلهم بأمور جانبية وهو أمر ضروري لأي نظام يريد أن يؤمن نفسه من يقظة شعبه، وهو ما يفسر خوف جمال عبد الناصر من تسليح الشعب المصري في مقاومة الاحتلال الثلاثي عام 1956، حتى في ظل احتمال وقوع مصر تحت الاحتلال مرة أخرى، فالشعب اليقظ الفعال الواثق في نفسه أخطر على الحكام المستبدين من الاحتلال الخارجي أو الهيمنة الخارجية.

نعود لموضوعنا، ما هي الملابسات والظروف الحقيقية التي جعلت المصريين يقعون في هذا التناقض المريب بين قيمهم الراقية وشهامتهم، وبين ما قاموا به من محاولاتهم منع دفن طبيبة مصرية ماتت وهي تعالجهم، وما سر التقاط الإعلام الرسمي التابع للنظام التقاط هذا الحادث وإبرازه بصورة مبالغ فيها ؟!

تناقض الإعلام الهزلي

وعن تناقض الإعلام المصري الرسمي والصورة الهزلية التي ظهر عليها فحدث ولا حرج، فبدلا من أن يقوم الإعلام بدور الكشاف الوطني لمواطن الخلل بهدف تجنبها وعلاجها لتجاوز الأزمة، قدم الإعلام أداء أشبه بدور «الصّييت» الذي يقف وراء المغني أو المغنية يمتدح فيهم حتى لو كان صوت أحد منهم أنكر من صوت الحمار.

وبدأت التبريرات الساذجة تفرض نفسها على البرامج الإعلامية المصرية حتى إن أحد المذيعين برر إرسال طائرة مساعدات مصرية لإيطاليا في الوقت الذي يعاني فيه الشعب المصري من ندرة أدوات ومحاليل الوقاية فقال أن هذه المساعدات في ميزان حسناتنا على طريقة داوي مرضاكم بالصدقة!!!، وآخر خصص برنامجه لكشف أعداد المصابين في الدول المختلفة مع مصر بدلا من دراسة الوضع في مصر وكشف الصورة الحقيقية لتجنب المرض، وأصبح دور الإعلام المصري الرسمي لا يزيد عن دور صبي العالمة الذي يسير وراء الراقصة في الزفة يرش الملح.

وكما يقول المصريون « ياما في الجراب يا حاوي»، ما زالت كورونا ستكشف لنا مزيد من العلل المحيطة بنا، ولكن في الوقت نفسه تحية ليقظة الشعب المصري التي أتمنى أن تستمر إلى ما بعد أزمة كورونا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه