عامر عبد المنعم. للحقيقة ثمن

عامر عبد المنعم

ها هو صديق العمر الصحفي عامر عبد المنعم ينضم لطابور طويل من سجناء الصحافة والرأي (جاوز السبعين صحفيا ومصورا)، والتهمة هي ذاتها التي وجهت للكثيرين من قبله “نشر أخبار كاذبة”، والتهمة كما يبدو من ظاهرها تتعلق بالنشر وهو ما يمنع الدستور المصري الحالي الحبس فيه وفقا لنص مادته 71 (.. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية..).

وصل عامر أخيرا إلى سجن طرة بعد رحلة اختفاء قسري استمرت يومين ظل أهله وأصدقاؤه يبحثون عنه في أماكن احتجاز مختلفة، وما دلهم على مكانه إلا مكالمة من فاعل خير تفيد بوصوله إلى سجن طرة بعد أن تلاعب بهم أمناء الشرطة في سجن الجيزة بغرض ابتزازهم ماليا، وعلمت الأسرة أيضا أن عامر بحاجة إلى أدويته ونظارته، كما علمت أن التحقيقات التي جرت معه تركزت جميعها حول مقالاته التي نشرها في جريدة الشعب (المغلقة منذ 20مايو 2000) وكذا مقالات ودراسات نشرها في مواقع أخرى، وقد أمرت النيابة في نهاية جولتها الأولى من التحقيقات بحبسه احتياطيا 15 يوما.

وهذا الباب بالذات كان عامر هو أكثرنا تخصصا فيه وأكثرنا كتابة عنه، حتى كاد أن يصبح حقا حصريا له

لم يكن بين التهم الموجهة لعامر مشاركته في عمل إرهابي، أو تحريض على العنف، أو سرقة أثار، أو تفريط في أرض الوطن، أو مياهه، أو ثرواته بالعكس فقد كان عمر من أشد المدافعين عن الأرض والعرض والسيادة والثروات الوطنية، ومن أشد المدافعين عن حقوق مصر في مياهها وغازها، ومن أشد المواجهين لمحاولات تفتيتها، وإعادة تقسيمها جغرافيا بما يسمح بتقسيمها سياسيا لاحقا، وهذا الباب بالذات كان عامر هو أكثرنا تخصصا فيه وأكثرنا كتابة عنه، حتى كاد أن يصبح حقا حصريا له.

عامر من أقرب الأصدقاء القدامى الذين أفخر بهم، فقد تعارفنا خلال الدراسة الجامعية، كان هو مرشحا في اتحاد الطلاب وكنت من الفريق الذي يدير الحملة الانتخابية لمرشحي الجماعة الإسلامية وحلفائهم، وعقب تخرجنا من الجامعة تفرقت بنا السبل، حتى التقينا مجددا في جريدة الشعب، وكنا مجموعة من الصحفيين الشبان المقربين من رئيس التحرير الأشهر للجريدة (عادل حسين رحمه الله) بل كنا نوصف بأننا أبناء عادل حسين وحوارييه، وهو وصف نفخر به حتى اليوم ( من هؤلاء الحواريين غيري أنا وعامر، هناك طلعت رميح ومحمد القدوسي وعبد الفتاح فايد، وصلاح بديوي، ومحمد هلال، وجمال عرفة وأشرف خليل، ومحمود سلطان، وآخرين)، وهذه الأسماء جاءت من خلفيات سياسية وفكرية مختلفة (يسارية وناصرية وإسلامية بألوانها المختلفة أيضا) إلا أنها التقت تحت سقف جريدة الشعب مكانا، وتحت سقف عادل حسين فكرا وتنظيرا، وقد تناوبنا جميعا على إدارة الصحيفة في مواقعها التحريرية المختلفة، كما أن بعضنا التحق بحزب العمل وفاز في انتخاباته بعضوية لجنتيه التنفيذية والعليا، ( طلعت رميح وعامر وصلاح بديوي ومحمد هلال وكاتب هذه السطور).

هو ليس مجرد صحفي تقليدي، يكتفي بنقل الأخبار من مصادرها، لكنه محقق صحفي من الطراز الأول

كان عامر أسبقنا إلى التكنولوجيا بفضل بعثة تدريبة إلى هولندا مطلع التسعينات عاد منها متقنا للتعامل مع العالم الأزرق، حيث كانت مصر حديثة عهد بالإنترنت عموما، ولم تكن المؤسسات الصحفية قد دخلت هذا العالم باستثناء مؤسستين هما مؤسسة الأهرام، وصحيفة الشعب المعارضة بفضل عامر عبد المنعم الذي أصبح مشرفا على النسخة الالكترونية للجريدة، ورغم أن هذا التطور التقني لجريدة الشعب في حينه نقلها نقلة كبرى كانت مثار فخر لنا جميعا، إلا أننا خسرنا أرشيفنا الصحفي (حملات صحفية أسقطت وزراء ومحافظين، وحركت الشارع دفاعا عن قضايا وطنية، وتحقيقات وحوارات، وأخبار ومقالات كانت مثار فخر كبير لنا، وكانت صانعة للأحداث في مصر في تلك الفترة).

هو ليس مجرد صحفي تقليدي، يكتفي بنقل الأخبار من مصادرها، لكنه محقق صحفي من الطراز الأول، وقد ساعده ذلك لاحقا في كتابة مقالات ودراسات عميقة، وفي اختيار قضايا معقدة ليكتب عنها بشكل سلس، ما ييسر فهمها للعامة، وإذا كان عامر ناشطا طلابيا أثناء دراسته الجامعية، فإنه أصبح ناشطا نقابيا بعد عمله في جريدة الشعب، وترشح لانتخابات نقابة الصحفيين في إحدى الدورات، وظل عضوا نشطا بلجنة الحريات بالنقابة وبلجان نقابية أخرى، ولم تفته أيا من فعاليات نقابة الصحفيين الكبرى مثل الاعتصامات أو المؤتمرات الخ، ولكنه عقب الانقلاب العسكري أصيب بالعديد من الأمراض التي أقعدته عن التفاعل، فقد أجرى عمليتين جراحيتين في عينيه ناهيك عن إصابته بالسكر وأمراض أخرى، وهو والد لثلاث بنات، تزوجت اثنتان بينما ظلت الصغرى في رعايته.

لم يكن عضوا بأي جماعة مناهضة للنظام وبالتالي شعر بوضع آمن نسبيا من الملاحقة

لم يشأ عامر أن يهاجر من مصر عقب الانقلاب العسكري رغم خطورة الأوضاع الأمنية، والاعتقالات العشوائية التي طالته أخيرا، فهو لم يكن عضوا بأي جماعة مناهضة للنظام وبالتالي شعر بوضع آمن نسبيا من الملاحقة، كما أن سنه ورعايته لابنته وزوجته كانا سببا أخرا لعدم هجرته، ورغم ابتعاده عن أي عمل سياسي أو تنظيمي مما يستوجب ملاحقته بنظر النظام الحاكم، إلا أن هذا النظام لم يغفر له تاريخه في جريد ة الشعب، فكانت مقالاته وتحقيقاته التي نشرها قبل عشرين عاما محلا للسؤال والتحقيق في النيابة، وهكذا يؤكد هذا النظام مجددا أنه وريث شرعي لنظام مبارك وأنه يثأر له بأثر رجعي.

رضا العراقي.. فارس آخر ترجل

رحم الله زميلنا الصحفي القدير رضا العراقي أحد فرسان جريدة الشعب الذي وافته المنية مع انتهائي من كتابة هذا المقال، تزاملت مع رضا في جريدة الشعب حتى أغلقها نظام مبارك في 20 مايو 2000، ولم يوافق على إعادة فتحها رغم حصولها على 13 حكما قضائيا.. كان رضا العراقي مثالا للخلق الرفيع، والصداقة الحقة والأداء المهني المتميز.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته