درْء تعارض (القُطْريّة) و(الأُمميّة) في دعْم ونُصْرة القضيَّة الفلسطينيّة.

 

في كتابه (المقدّمة) أشار المؤرّخ ابن خلْدون إلى قاعدةٍ في غاية الأهميّة، وهي: (أنَّ المغْلوب مُولع أبداً بتقْليد الغَالب)، ولعلَّها تعدّ من أهمّ القواعد الحاكمة للاجتماع البشريّ، حيث يفْقد المغلوب في هذه الحالة إرادته وقراره ومصيره ويصبح كالرِّيشة في مهبّ الرّيح، لا يُميّز بين مصْلحة موْهُومة ومفْسدة مُحقَّقة، وفي ظلّ حالة (المغلوبيّة) أو (المقْهوريّة) فإنَّ هذا النَّوع من المُجْتمعات يكون غير مؤَهّل للتَّعاطي مع الأزمات وكيفيّة إدَارتها، وسرعان ما يقع تحت طائلة الفوْضى والارتباك وغياب سلّم الأولويات، وتضحى القضايا المصيريّة عنده محلَّ نظرٍ وأخذٍ وردٍّ واجتهادٍ، ولا عجب أن تكون أيضاً في ذيل سلَّم الأوْلويات أو أن تسْقط من أجندته السِّياسيّة.

ومنْذ أن انطلق (الرَّبيع العربيّ) ودخلت المنْطقة العربيّة في حالة من (الفوْضى الخلاَّقة)، بدأنا نلْحظ تراجعًا واضحًا في تبنِّي بعض الجماعات السِّياسيّة والأنظمة النَّاشئة والمنظَّمات العاملة مواقف غامضة ومرتبكة، وفي بعض الأحيان هزيلة تجاه (القضيَّة الفلسطينيّة)، لاعتبارات عدّة؛ بعضها ذاتيّ وبعضها موضوعيّ، وهو ما يقتضي منّا النَّظر في هذه (الظَّاهرة)، والبحث في خلفياتها وأسبابها ومبرّراتها، والمساهمة في وضْع بعض القواعد المنْهجية النَّظريّة والعمليّة للمساعدة على ضبْط البوْصلة تجاه (القضيَّة المرْكزيّة)، من أجْل الحفاظ على موْقفٍ مبدئيّ واستراتيجيّ؛ ثابتٍ وراسخٍ لا يتلوَّن مع الأحداث والمتغيّرات، ولا يَلِين أو يَمِيع أمام اكْراهات السّياسة وضروراتها.

مبرّرات المواقف المُتراجعة:

لابدَّ في البداية من الإشارة إلى أنَّه من الخطأ أن نفسِّر هذا التَّراجع في المواقف تجاه (القضيَّة الفلسطينيّة) بميزان نظريّة (السَّبب الواحد) وإنِّما هي ظاهرة معقَّدة ومركَّبة، قد تعود لسبب واحد لدى طائفة وقد تعود لعدّة أسبابٍ لدى طائفةٍ أخرى، وبالتَّالي من الخطأ أن نُحيل تراجع المواقف المتعلِّقة بالقضيَّة إلى سببٍ واحدٍ (ماستر سبب)، ويُمكن حصر هذه المبرِّرات أو الإعتذاريات في الآتي على سبيل التَّمثيل لا الحصر:

* ضعف الوعي بطبيعة الصِّراع الجاري على أرض فلسطين، وعدم إدراك خلفياته الدِّينيّة والفكريّة والسِّياسيّة، ومحاولة تبسيط الصِّراع باعتباره صراعًا ناشبًا بين أبناء العمومة: إسْماعيل واسْحاق عليهما السّلام، كما يرى البعض، وبالتَّالي ليس هناك حاجة، حسب زعمهم، في أن “يَحْشُر” الإنسان نفسه في قضايا لا تعنيه، وربَّما استحْضر بعضهم المقولة الشَّهيرة: (من تدَخَّل فيما لا يَعْنيه سمع ما لا يُرْضيه)، أو ينظر إليه على أنه (احتلال تقليدي) تقتصر مفاعيله على حدود المساحة الجغرافيّة التِّي هو مسيطر عليها، وهي فلسطين، وبالتَّالي هي قضيّة فلسطينيّة محليّة تدور رحاها بين “مُحْتلٍّ” اسمه (إسْرائيل) وبين “شعْبٍ” اسمه (الشَّعْب الفلسطينيّ)، وربَّما ليس هناك أي مانع لدى هؤلاء من أن يفرز هذا الصِّراع كيانًا سياسياً هجينًا يجمع بين طرفيْ الصِّراع في دولةٍ واحدةٍ اسمها (إسْرَاطِين) أو أن يتقاسم الطَّرفان أرض فلسْطين بحيث تكون لكل طرف دوْلة مُستقلّة، ما دام أنّ الأمر قدْ تمّ بالتَّراضي بين الطَّرفيْن.

* البعض الآخر يُفسِّر هذا التَّراجع إلى حالة الفوضى التِّي حلَّت بالمنطقة، فبعثرت الأولويات، وأحدثت تحدِّيات جديدة لم تكن في الحُسبان، وفرضت على الأطراف السِّياسيّة الجديدة الفاعلة في البلد الواحد وقائع ومعادلات جديدة حالت دون ثبات مواقفها تجاه (القضيَّة الفلسطينيّة) على ما كانت عليه قبل (الرَّبيع العربيّ)، وبالتَّالي باتت التَّحدّيات القُطْريّة المحليّة؛ التَّنمية الاقتصاديّة، القضايا الاجتماعيّة كالبطالة، ومأْسسة الحرِّيات، وبناء الدَّولة الدِّيمقراطيّة، وغيرها من التَّحديّات هي التِّي تتصدَّر سلّم الأولويات، ولم تعد (القضيَّة الفلسطينيّة)، من النَّاحية العمليّة على الأقل هي القضيَّة المرْكزيّة، وإن كانت هي كذلك من النَّاحية النَّظريّة.

* هناك أطراف أخرى وقعت تحت اكراهات السِّياسيّة، من خلال إدراكها لحجم العبء الذي ممكن أن يُثْقِل كاهلها والتَّكاليف السِّياسيّة التِّي يمكن أن تدفعها في حال ما إذا تبنَّت مواقف سياسيّة متقدّمة وداعمة للقضية الفلسطينيّة، ولاعتبارات ما يمكن أن نقول عنها أنَّها “تكْتيكية” مرحليّة آثرت أن تلتزم الصَّمت تجاه القضيَّة على أمل أن تمرَّ هذه العواصف الهوجاء التِّي تدمّر كل شيء بأمر القوى العظمى الفاعلة في السَّاحة الدَّوْليّة والدَّاعمة للعدوّ الصّهيونيّ، وحينئذ يكون لكل مقام مقال ولكلِّ حادثٍ حديث، ومن ثَمَّ رأت هذه الأطراف أن تركِّز جهدها على الحصول على شهادة حسن السِّيرة والسُّلوك من المجتمع الدَّوْلي وطَمْأنته بعدم تجاوز سقْف الرُّباعيّة الدَّوْليّة وأنها لن تتبنى مواقف “متطرّفة” تجاه (القضيَّة الفلسطينيّة).

* هناك مجموعة رابعة ربَّما تكون هي الأكثر سوءًا وهي التِّي تتبنَّى مواقف صهْيونيّة مقصودة تأتي في سياق دعم (الكيان الإسْرائيليّ) المحتلّ بشكل مباشر وتحميل الطَّرف الفلسطينيّ الضَّعيف كلَّ الفشل الذِّي لم تُحقِّقه كلّ مشاريع التَّسْوية السِّياسيّة في الشَّرْق الأوْسط، وبالتَّالي تخلِّي هذا الطَّرف عن (القضيَّة الفلسطينيّة) إنَّما هو يعدّ نتيجة منطقيّة وطبيعيّة للقناعات الفكريّة والسِّياسيّة التِّي يحملها هذا الطَّرف.

ربَّما تكون هناك مجموعات أخرى لها مبرَّرات أخرى تعتذر بها بين يديّ مواقفها المتخاذلة تجاه فلسطين وقضيتها العادلة لكن تبقى، حسب ظنِّي، مبررات ثانويّة أمام تلك المبرّرات المذكورة أعلاه.

ومن هذا المنطلق لابدّ من تقييم هذه المواقف وإعادة النَّظر فيها وفق القواعد والمعايير التِّي سنأتي على ذكْرها لاحقاً.

إعادة “تفْهيم” المُصْطلحات:

لابدَّ في البداية من الإشارة إلى أهميّة تحرير المفاهيم المُسْتخدمة، وتحْديد مضامينها، وتدْقيق دلالاتها وإعادة النَّظر في مُحْتوياتها في ضوْء ما شاب القضيَّة من تطوّرات جوهريّة وعميقة؛ لما لذلك من دورٍ بارزٍ ومُؤثِّر في صياغة الرُّؤى والاسْتراتيجيات، وبناء المواقف والسّياسات، وقد بات من الواضح اليوم أنَّه قدْ أتى على (القضيَّة الفلسطينيّة) حين من الدَّهْر لم تعد فيه المفاهيم المرْكزيّة الأصيلة والمواقف المبْدئية المتعلّقة بـ(القضيَّة) ذات شأْن في الخطاب السّياسيّ الرَّسْميّ وأيضًا لدى بعض التَّنْظيمات السِّياسيّة، وإنَّما هي، في أحْسن الحالات، أضْحت أقرب إلى الشِّعارات الجوْفاء الخالية من أيّ مضْمون فاعلٍ وحقيقيّ، ومع مرور الزَّمان وتسارع الأحْداث وتعَقُّدِها بدأت تتشكَّل في الوعي العربيّ والمسلم مضامين ومفاهيم جديدة غير أصيلة ولا تمتُّ لعدالة القضيَّة بصلة، وإن كانت المصْطلحات المُسْتخدمة والعبارات المتداولة ظلَّت على حالها؛ مثل مصطلحات:  (التَّحْرير)، و(مركزيّة قضيّة)، و(مُناهضة التَّطبيع مع العدوّ الصِّهْيونيّ)، و(الدَّوْلة الفلسطينيّة)، وغيرها من المصطلحات التِّي باتت مع مرور الوقْت تحمل مضامين ومفاهيم مختلفة تمامًا؛ بل قد تتناقض في بعض الأحيان مع مضامين المرحلة التِّي أنتجتها وأسَّسّت لها لحْظة تخلّقها، وهو ما منح (العدوّ الصِّهيونيّ) الجُرْأة الزَّائدة على اتّخاذ تدابير وخطوات إجرائيّة، في الآونة الأخيرة، بشأن المسْجد الأقْصى؛ اعْتداءً واقْتحامًا وتهويداً ومنعاً للمصلِّين لدخوله وتعنيفًا لهم، كما سعى إلى توْسيع مجال حراكه التَّطْبيعيّ في عدد من الأقطار العربيّة والإسلاميّة، والقوم في غمْرةٍ ساهون، من باب قول القائل: (إذا هبَّت ريحك فاغْتنمْها).

ولعلَّه بات من المؤكَّد اليوْم، بحكم مُقْتضيات المرحلة الرَّاهنة وملابساتها التِّي تمر بها (القضيَّة الفلسطينيّة) ومِنْ حولها منطقتنا العربية، وبحكم الرَّان الذي أصاب منظومتنا الفكرية، أن نذكِّر ببعض المفاهيم الأصيلة والأساسية التِّي يجب استحضارها في أدبيات الصِّراع مع العدوّ، لتكون قراراتُنا ومواقفنا أكثر مبدئيةً ووضوحًا وعمْقًا وتأْثيرًا ورسوخًا، بعيدًا عن المُزايدات السِّياسيّة والشِّعارات التَّرْويجيّة والاسْتحْقَاقات الانْتِخابيّة.

القضيَّة الفلسطينيّة قضيّة مركزيّة:

لا نُبالغ إذا قلنا: لعلَّه من أكثر المصطلحات الرَّائجة في سوق القضيَّة الفلسطينيّة؛ هي كونها قضيّة مركزيّة، ولا يخلو أيّ متحدِّث اليوْم في الشَّأْن الفلسطينيّ من أن يُدَبِّج كلامه بهذه العبارة المرْكزيّة: “القضيَّة الفلسطينيّة قضية مركزية”؛ باعتبارها من المسلَّمات أو من المعلوم من القضيَّة بالضَّرورة، ولكن إذا نظرنا لهذه المسْألة من النَّاحية الواقعيّة، مُجرّدةً من أيّ خطاب إنْشائيّ أو كلام منمّق، فإننا نجد أنفسنا أمام عدّة أسْئلة، من بينها: أين أنظمتنا السِّياسيّة وأحزابنا وتنظيماتنا من حقيقة هذا المصطلح ودلالاته؟ وهل تتبوّء (القضيَّة الفلسطينيّة) بالفعل موقعا مركزياً في قضايا هذه الأنظمة والأحزاب السِّياسيّة؟ وهل تتصدّر سلّم أولوياتها؟ وهل لا تزال هي (القضيَّة المرْكزيّة) حقيقةً، في ظلّ حالة الفوضى التِّي تشهدها المنطقة؟ وإلى أيِّ مدى أثَّرت الأحداث الجارية على سلّم الأولويات فدفعت بالاستحقاقات والهموم القطريّة إلى الصدارة على حساب قضايا الأمة وعلى رأسها القضيَّة الفلسطينيّة؟

غير أنه وبالنظر إلى الواقع المعاش والممارسات السِّياسيّة لبعض الأطراف السِّياسيّة والمواقف المُصرَّح بها لدى البعض الآخر، فإننا نجد الصُّورة تكاد تكون مختلفة تماما، ذلك أن (القضيَّة الفلسطينيّة) لم تعد كذلك من النَّاحية العمليّة وإن كانت هي كذلك، أي أنها قضيّة مركزيّة، من النَّاحية النّظريّة لدى البعض، فمستوى الدّعم؛ بمختلف أشكاله لم يرتق إلى المسْتوى المطْلوب، بل ربَّما يكون معدومًا في كثير من الأحيان، أمَّا حجْم المواقف فقد أصبح باهتاً جداً أمام ما يجري في القدْس والمسجد الأقصى من اعتداء على الإنسان والمقدّسات، والذي لم يقابله أيّ ردّ فعل عربيّ رسميّ ولا حتَّى من بعض الأحزاب السِّياسيّة التِّي ترفع شعار (مركزيّة القضيَّة) مساوٍ له في القوة والمقدار، فالجميع منشغل بترتيب بيته الدَّاخليّ، بل نلحظ تنازل البعْض، ولوْ ضمْنيًا، عن بعْض ثوابت (القضيَّة الفلسطينيّة)، كحقِّ عودة اللاَّجئين واستقلال الدَّولة الفلسطينيّة والاعتراف بالقدس عاصمة الدّولة الفلسطينيّة وغيرها من الثوابت التِّي كان مجرَّد الحديث فيها في يوم من الأيام يجعل صاحبه تحت طائلة الخيانة العظمى.

ومن هذا المُنْطلق، فإنَّنا إذا أردنا أن تكون القضيَّة الفلسطينيّة ذات حضور مركزيّ؛ حقيقيّ وفاعلٍ، فلابدّ من العمل على تحْقيق جمْلةٍ من الشُّروط الموضوعيّة لتكون بمثابة المُؤشِّرات المُعْتمدة في تقْييم الأداء والجدْوى والفَاعليّة، بحيْث نخرج منْ دائرة الكلام الإنْشائيّ إلى دائرة الفِعْل الحقيقيّ، ومنْ هذه المؤشِّرات على سبيل المثال:

ما هو “موْقع” (القضيَّة الفلسطينيّة) في مختلف برامجنا؛ السِّياسيّة والثَّقافيّة والتَّعْبويّة والإعلاميّة؟ وما هو ترتيبها في سلَّم أولوياتنا وعلى جدول أعمالنا؟ وهل هناك خطَّة واضحة المعالم، بيّنة المؤشِّرات تعكس حقيقة الدّعم المقدّم أو المُتوقّع أن يقدَّم للقضيّة؟

ما مدى وضوح المواقف المتعلِّقة بـ(القضيَّة الفلسطينيّة) ومستوى قوَّتها وجرأتها؛ سواء أكانت تلك المتعلقة بثوابت القضيَّة أم المتعلقة بالمناسبات العامة أم الأحداث الطارئة؟

ما هو مستوى التَّحْشيد والتَّعْبئة والضَّغْط المُمَارس على أصحاب القرار والنّفوذ لاتِّخاذ مواقف داعمة ومُناصرة ومؤيِّدة للحقّ الفلسطينيّ؟

ما هو الموقف من (العدوّ الصِّهْيونيّ) ومن (التَّطْبيع) معه؟ وهل هناك اجراءات فعلية لمقاطعته على مختلف المُستويات؛ السِّياسيّة والثَّقافيّة والإعْلاميّة والاقْتصاديّة؟

وبناءً على ذلك، وحتَّى تكون القضيَّة مرْكزيَّةً، عملاً لا قوْلاً، فإنَّه يجب أن يكون (للقضيّة) ممَّا سبق ذكره نصيبٌ وازنٌ، وحظٌّ وافرٌ، ودعمٌ مقدَّرٌ، من غيْر ذلك فإنَّ أيّ كلامٍ عن (مرْكزية القضيَّة)، إنما هو من قبيل اللَّغو وفُضول الكلام، وسيظلُّ حديثاً فضفاضًا لا يُسْمن ولا يُغني من جوعٍ، وهو أقْرب للمزايدة منه إلى التَّبنِّي الحقيقيّ، وكما يقول الشَّاطبيّ في مُوافقاته: (وكُلُّ مسْألةٍ لا ينْبنِي عليْها عمَل، فالخَوْض فيهَا خوْضٌ فيمَا لمْ يدُل على اسْتِحْسانه دليل شرعيّ).

طبيعة الصِّراع:

يُخطئ من يحاول أن يختزل الصِّراع الذِّي تدور رحاه على أرض فلسْطين؛ بما تتضمَّنه فلسطين من تاريخٍ سحيق وتراث عريقٍ، وحضارة سامقة ومقدَّسات ماثلة، أنْ يخْتزله في مجرّد صراعٍ عاديّ أو في مجرّد مناوشات ومراشقات لخلافٍ واقعٍ حول قطعة أرضٍ بين طائفتين بَغَتْ إحداهُما على الأخْرى، هُما: (العدوّ الصِّهيونيّ) المحتلّ من جهة والشَّعْب الفلسطينيّ من جهة ثانية، دون استدعاء لخلفيات الصِّراع الدِّينيّة وأبعاده الأيديولوجية العميقة التِّي تغذِّيه وتمدُّه بكافة أسباب الحياة ومقوّمات الوجود، فالصِّراع الدَّائر على أرض فلسطين اليوم هو أكبر وأوسع من مجرّد صراعٍ تقليديّ، يتعلّق بإعادة رسم الحدود بين طرفيّ النِّزاع، في إطار ما بات يطلق عليه ظُلْمًا (حلّ الدَّوْلتيْن)؛ ذلك الحلّ الذِّي تواطأت عليه أمم الأرض بإقْرار أُمميّ في الأمم المتَّحدة، ومُصادقة الاتِّحاد الأوروبيّ، ومباركة جامعة الدُّول العربيّة، وذلك في محاولة فاشلة لدمْج (الكيان الإسرائيليّ) دمْجًا طبيعيًا ضمن النَّسيج الاجْتماعي للْمنطقة.

إنّ مجرَّد التَّفكير في قبول هذا التَّوْصيف المزوّر للصراع بهذا المعنى والتّسليم به باعتباره واقعًا مفروضًا لا مناص منه هو مؤشّر خطير يدلّ على مدى حجْم التَّردي الذِّي وصل إليه مستوى الوعي العربيّ الرّسميّ حيال (القضيَّة الفلسطينيّة: أرضًا وشعْبًا ومقدّساتٍ)، وهو شكل من أشكال التّزوير الفجّ الذّي من شأنه أن يُهدِّد الأمة في مُقوِّمات وجودها المعنويّة؛ وعياً وعقلاً وثقافةً ودينًا، تمهيداً لتهديدها في مُقوِّمات وجودها الماديّة؛ أرضًا وشعبًا، وحتى ندرك حقيقة طبيعة الصِّراع بوضوح أكبر فيكفي أن نشير باختصار شديد لمسْألتين مُهمّتين: إحداهما تتعلّق بطبيعة (العدوّ الصهيونيّ) ودور الاستعمار الغربيّ في التَّمْكين له والأخرى تتعلّق بالدّوْر الوظيفيّ (للعدوّ الصّهيونيّ) والآثار الكارثيّة المُتَرتّبة على احْتلاله لفلسْطين:

المسألة الأولى: طبيعة (العدوّ الصِّهيونيّ) ودور الاستعمار الغربيّ:

من المهمّ في البداية أن نُشير إلى مسْألة في غاية الأهمية، وهي: أنَّ (العدوّ الصّهيونيّ)، من حيث هو كذلك، يشكّل حالة استثْنائيّة فريدة في منْظُومة الفكْر الاسْتعماريّ التّقْليدي، فهو يعدّ من أسوء النَّماذج الاستعماريّة التِّي شهدتها البشريّة في تاريخ الاستعمار الحديث، باعتباره احتلالاً إحْلاليًا استيطانيًا عنصريًا مرتكزًا على (جدليّة الإجلاء والتَّوْطين؛ إجلاء الفلسطينيين أصحاب الأرض وتوطين اليهود بدلاً عنهم)، كما عبَّر عن ذلك المفكّر المغربي الطّيّب بُوعزَّة في مقاله الموسوم بـ(مصْطلح الصهْيونيّة .. نحو صياغة تعريف بديل)، وهي جدليّة مبْنِيَّة على أُسس عقائديّة ومرجعيّة توْراتيّة (سفْر يشُوع)، خلاصتُها، كما أشار إليها الدكتور عبد الوهاب المسيري في (موسوعته المُختصرة 2/ 393): (أن يقوم العنْصر السُّكَّانيّ الوافد (عادةً الأبيض) بالتَّخلّص من السّكّان الأصْلييّن؛ إمَّا عن طريق الطَّرد أو عن طريق الإبادة حتَّى يُفرغ الأرض منهم ويحلَّ محلَّهم)، وسِجلُّ (العدوّ الصِّهيونيّ) حافل بعشرات المجازر وجرائم التّطهير العرقيّ التِّي راح ضحيَّتها الآلاف من أبناء الشَّعب الفلسطينيّ؛ كمجازر صبرا وشاتيلا والحرم الإبراهيميّ، ودير ياسين، والقائمة أكبر من أن يتَّسع لها هذا المقام، أما حال اللاَّجئين الفلسطينييّن في الشَّتات فليْس منَّا ببعيد.

وقد استطاع هذا العدوّ؛ إما بتقدير ذاتيّ أو بتدْبير خارجيّ، أن يمتطي صهّوة الغزْوة الاستعماريّة العسكريّة الغربيّة لمنطقتنا العربيّة، من خلال العمل على تسليحه ودعمه وتوفير كل الأسباب المساعدة على وجوده، وتغطيته عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، ليتمكَّن من تحقيق جُمْلة من الأهداف والمكاسب التِّي تخدم طرفي المؤامرة: العدوّ الصِّهيونيّ والمُستعمر الغربيّ، كترسيخ التَّبعيّة واستدامة التَّخلّف الحضاريّ واستنزاف الموارد والمقدَّرات وتمكين العدوّ من التَّمدّد والانتشار الأفقيّ، انتهاءً بالسَّيطرة الشَّاملة على ما تُسمِّيه (الصهْيونيّة) بالأرْض الموعودة؛ من نهر مصر إلى النَّهر الكبير نهر الفرات، كما ورد في (سفْر التَّكْوين)؛ لتشمل دولاً، مثل: الأردن ولبنان وأجزاء من العراق وأخرى من مصر وحوالي ثلثي مساحة المملكة العربيّة السَّعوديّة.

وإذا كان الأمر كذلك، وبهذا الحجم من الخطورة؛ بما يشكِّله من تهديد مباشر للأمن القوميّ للمنطقة، فأيّ مصير مشْؤومٍ ينتظر الأمَّة في قادم أيَّامها، والقوْم في غفْلة ساهُون؟    

المسألة الثانية: الدَّور الوظيفيّ والآثار الكارثية المُترتِّبة على احْتلال فلسْطين:

بعيدًا عن كلّ الملاحظات النَّقديّة المُوجّهة لنظريّة التَّفسير التَّآمريّ وعن الكيانات السِّريّة الخفيّة ذات القُدرات الأسْطوريّة التِّي تُدير مقاليد العالم، بعيدًا عن كلِّ ذلك، فإنَّه لا يخفى على أيّ باحثٍ أو مُتابعٍ للشأن الصِّهيونيّ أن يُدرك الدَّوْر الوظيفيّ الذي يلعبه (الكيان الصِّهيونيّ) المحتلّ في المنطقة، وتُشير الكثير من الدّراسات المُتخِّصصة في هذا الشَّأن إلى أنّ هذا (الكيان) هو عبارة عن (دوْلة وظيفيّة أقامها الغرب ودعَمها وضمِن لها البقاء حتَّى تقوم على خدمة مصالحه وتجْنيد يهود العالم وراءَها) (المسيري، الموسوعة، المجلد السَّابع ص: 21، بتصرّف)، ولعلَّه من أبرز الأدوار الوظيفيّة التِّي ينبغي الإشارة إليها، هي (دور “إسرائيل” في تفْتيت الوطن العربيّ)، (هو عنوان كتاب للدكتور أحمد سعيد نوفل)، وهو دوْر مدْروس ومُخَطّط له بعناية بغرض خلْق كيانات سياسيّة مُجزّأة وضعيفة اقتصاديًا وعسكريًا وفق مبدأ (فرِّق تسُد) لتبْقى تلك الكيانات بالمحصّلة تابعة للمحتلّ، يقول الدكتور أحمد سعيد نوفل في كتابه المشار إليه أعلاه (ص 16): (ويعدّ تمزيق الوطن العربيّ وتجِزِئَتُه هدفًا استعماريًا قديمًا.. للحُؤول دون إقامة دولة الوحْدة العربيّة، وارتبطت موَاقف الاسْتعمار والإمبرياليّة بمواقف الصهْيونيّة و”إسْرائيل”، وهو ارتباط جوْهريّ وأساسيّ لتحقيق المصالح الاستعماريّة الأوروبيّة في انْتزاع فلسطين من الوطن العربيّ مع المصالح الصهْيونيّة بإقامة وطنٍ قوْميٍّ لليهود في فلسطين، لتمْنع قيام دولةٍ عربيةٍ مُوَحَّدةٍ بين أقطارها، وتسلبه ثرواته وتستثْمر موْقعه، وتُخضعه لإراداتها ومصالحها، وحدَّد المشْروع الاسْتعماريّ – الصِّهيونيّ، هدفين رئيسيين هما: توْحيد اليهود في قوْميَّةٍ واحدةٍ ودولةٍ واحدةٍ، وتجزِئة الأمَّتين العربيّة والإسلاميّة في دُول مُجزَّأة).

 وما يجري في منطقتنا العربيّة اليوم يؤكِّد صدْق ما ذهبت إليه العديد من الدِّراسات الاستشرافيّة والأبحاث المتخصِّصة، فمِرْجَل المنطقة في حالة غَلَيان، قد وصل في العشريّة الأخيرة إلى مُنتهاه، ليستوي سُوقُه على مشروع تَفْتِيتِيّ جديد يقوم على إعادة تقسيم المنطقة على أساس طائفيّ وعرقيّ، لتُصبح معه الكيانات السِّياسيّة التِّي أنْتجتها اتفاقيّة (سايكس – بيكو) أثرًا بعد عيْن، ولتفضي إلى حالةٍ من الفوضى الجديدة التِّي من شأنها أن ترسم (حدود الدّم)، التِّي عبّر عنها الجنرال الأمريكي المتقاعد (رالْف بِيتْرز) عام (2006م) في دراسة له حملت العنْوان ذاته، ولذلك من المهمّ جدًّا أن تُدرك أنظمتنا العربيّة، المسكونة بهاجس “خُرافة الإرهاب”، المصير المشْؤوم الذّي يتربَّص بها الدَّوائر، وأن تعمل على مُواجهة هذه المخطَّطات والتَّحدّيات بمزيد من رَصِّ الصَّفّ الوطنيّ وإحْياء مفاهيم الوحدة العربيّة والإسلاميّة بمنظور متكامل، علّها تسْتدْرك ما فاتها، وكما يُقال: (أن تأْتي متأخّرًا خيْر من أن لا تأْتي أبدًا)، ولمن رام معرفة المزيد عن (مؤامرة التّفتيت) في الوطن العربيّ فما عليه إلاّ أن يرجع إلى الكتاب المرجعيّ في هذا الباب، وهو: (تفْتيت الشَّرْق الأوْسط: تاريخُ الاضْطرابات التِّي يُثيرها الغرْب في العالم العربيّ)، للكاتب الموسوعيّ البريطانيّ، من أصل أسْترالي، الدُّكتور جيرْمي سوْلت.     

(القضيَّة الفلسطينيّة) من منْظور إسلاميّ:

يُعدّ مدخل (إسلاميّة القضيَّة) من أهمِّ المفاهيم المفتاحيّة التِّي يجب أن تتضمَّنها الدِّيباجات المُؤَطِّرَة للتّصورات النَّظريّة التّأصيليّة المتعلّقة بفهْم (القضيَّة الفلسطينيّة)، هذه المفاهيم التِّي ينبغي أن يُعاد تشكيلها وصياغتها على أُسس ومقارباتٍ جديدةٍ تُعيد لهذا المنْظور مكانته وموقعه اللاَّئقيْن به، وتُعمِّق من خلاله مفهوم المسؤوليّة الشّرعيّة تجاه هذه القضيَّة المباركة، فهي كما قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: (وديعة محمّد عندنا، وأمانة عمر في ذمَّتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود ونحن عصبة إنَّا إذًا لخاسرون)، ومن المعلوم أن هذا النَّوع من المفاهيم الشّرعيّة، يحظى بتقدير واسع في أوساط المسلمين لما له من أثرٍ عاطفيّ ودينيّ في تحريك وجدان المسلم، من حيث كونها أرض مُباركة ومقدَّسة بنصِّ القُرآن الكريم، ويقع فيها (المسجد الأقصى المبارك)؛ أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد بُني لله في الأرض، وثالث المساجد مكانة في الإسلام، وهي أرض الأنبياء، وأرض المنشر والمحشر، ومركز الطَّائفة المنصورة الثَّابتة على الحقّ إلى يوْم القيامة، إلى غير ذلك من الخصائص الدّينيّة التِّي تتحلَّى بها فلسطين بوصفها (أرض مُباركة)، وعليه، ومن خلال هذه المنطلقات يمكننا أن ندْرك بوعي حجم المسؤوليّة الشَّرعيّة الفرديّة المُناطة بعهدتنا والتِّي سنُسْأل عنها أمام الله يوم القيامة، قال تعالى: (اقْرأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: ]

إنَّ مجرَّد الإقرار بالتَّكليف الواجب والاعتراف به لا يعدُّ شيئا مذكورًا، ولا يُخْلي ذمَّة صاحبه من تحمّل عبْء المسؤوليّة، فالمقْتضى الجوهريّ للمسؤوليّة هو أداء الواجب، بإتقانٍ وإخلاصٍ، ومناطها أن يكون الإنسان مؤَهَّلاً للمؤاخذة على أعماله وأقواله، مُلْزَمًا بتبعَاتِها المختلفة، سواءً أكانوا حكَّاما أم محكومين، زُرافات أم وحدانًا، وهذا من شأنه أن يعظّم من نطاق المسؤوليّة ويجعل منها نطاقا واسعًا؛ متعدَّد الاتِّجاهات والمسارات، متنوع الأشكال والمجالات، يتناسب طرَدِيًّا مع تعدُّد اتّجاهات القضيَّة ومسارتها، وتنوّع أشكالها ومجالاتها، وبناءً على ذلك فإنَّ صورة المسؤوليّة الشَّرعيّة ينبغي أن تظهر في شكل أحكام تكليفيّة تتراوح بين الوجوب والتَّحريم، كوجوب نصرة فلسطين وشعبها ومقدّساتها، وتقديم كافة سبل الدَّعْم لها؛ ماليًا وسياسيًا واعْلاميًا، وإصدار مواقف وبيانات واضحة وقويّة تناصرهم وتشدّ من أزرهم، وكتحريم التّطبيع مع العدوّ ووجوب مقاطعته، وقطع كل الحبال التِّي من شأنها أن تُقوّيه وتزيده صلابةً؛ من ذلك مثلاً: قطع العلاقات الدبلوماسيّة والاقتصاديّة والثَّقافيّة والرّياضيّة معه، وملاحقته قانونياً وتضييق الخناق عليه، ورفع الدَّعاوى ضدّه أمام المحاكم الدَّوْليّة باعتباره مُجرم حرب، وفي هذا القدر الذي ذكرناه من الأمثلة كفاية، فإنَّما أردناها نماذج وأمثلة يُنسج على منوالها وليست نماذج للحصر والاستقصاء، والغرض من كل ذلك هو بيان الحكم الشَّرعي الإجماليّ والقدر الواجب منه تجاه القضيَّة.

وختامًا:

ومن خلال ما تمّ عرضه، فإنَّه ليس هناك، في حقيقة الأمر، أيّ تعارض بين دعم (القضيّة الفلسطينيّة) ونُصْرتها وبين الانشغال بالهمِّ المحليّ، والقضايا الدّاخليّة، والتّحدّيات القُطريّة، والمنطق السّليم يقتضي حُسْن الموازنة بين الأمرين، وأن يكون أحدُهما خادمًا للآخر في انْسجامٍ وتكاملٍ وتبادلٍ للأدوار، دون أن يطغى أحدُهما على الآخر، والذي يُدرك حقيقة القضيّة وطبيعة الصِّراع، يعلم يقينًا أنَّ فلسطين قضيّةٌ خافضةٌ رافعةٌ؛ تخفض أقوامًا وترفع آخرين، تخفض كلّ من خذلها وخانها وتآمر عليها وحاصرها وضيَّق على أهلها الخناق وحاربهم في أرزاقهم وقوت عيالهم، وناصر عدوَّها وطَبَّع معه ومدّه بطوْق النَّجاة وأسباب الحياة، وترفع كل من ناصرها وأيَّدها وسعى إلى فكّ الحصار على أهلها وناضل من أجل حريتها وحرّية شعبها، وبذل وسعها وجهده في تقديم كل ما يستطيع على طريق تحريرها، دون مزايدة ولا توظيف قذر، وليست مواقف الرئيس التُّونسي الجديد قيسْ سعيّد في الآونة الأخيرة؛ من اعتبار (التَّطبيع) خيانة عظْمى، منّا ببعيد، فالشُّعوب الحرّة لا تنسى، وسنن التَّاريخ لا ترحم ولا تُحابي أحداً، وقوانين التَّغيير ماضيةٌ تسْحق كلّ من يقف أمامها، وإنّ غدًا لناظره لقَريب.      

  

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه