“اتفاقية إدلب” المشكلة والمخاطر وآفاق التحدي

 

بعد أن حبس الجميع أنفاسهم انتظاراً لمجزرة وشيكة في آخر معاقل الثورة السورية بمحافظة إدلب المتاخمة للحدود التركية، جل ضحاياها سيكونون من المدنيين الأبرياء، تضاف إلى سجل المجازر التي يرتكبها النظام وحلفاؤه في سوريا، وعزز ذلك فشل المحادثات الثلاثية بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران في طهران في السابع من الشهر الجاري في التوصل لصيغة حل سلمي يحقن دماء المدنيين، جاء إعلان توصل بوتين وأردوغان في سوتشي لتفاهمات تؤدي لتجنيب إدلب – ولو مؤقتاً – معركة كبيرة لينزع فتيل حرب كانت وشيكة، ليكون بمثابة أمل حالم أقرب للخيال منه للواقع.

فهل نجحت تركيا أردوغان في دحرجة كرة الثلج وتأجيل الحرب لشهور، أم نزعت بالفعل فتيل الأزمة نهائياً؟ وما هي الضمانات التي قدمتها تركيا للروس بشأن انخراط الجهاديين في العملية السياسية السورية مستقبلاً وزوال التهديد الذي يمثلونه؟ وما هي الأدوات التي تملكها تركيا لحمل الجهاديين على ذلك في ظل اختلاف الثقافات والرؤى والأيديولوجيا والمشروع بينها وبين الجهاديين؟

حجم المشكلة:
  1. منذ أكثر من سنتين وإدلب يتم إعدادها كمحرقة للجهاديين في المنطقة (سوريا والعراق) وتحديداً من بعد سقوط حلب حيث لم يعد لهم تواجد سوى في إدلب والأجزاء المتاخمة لها من حماة وحلب والحدود السورية العراقية.

      2- إن إدلب باتت تمثل آخر معاقل الثورة السورية وسقوطها – بأية صيغة كان – يمثل إنهاء الثورة السورية وإغلاق ملفها نهائياً.

خريطة الجهاديين في إدلب:

طبقاً لتصريحات المسؤولين الروس والسوريين وحسب التقارير المنشورة في (BBC) عربي وغيرها فإن هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة ومن انضم إليهم من الفصائل) تسيطر على مساحة (60 %) من إدلب، كما أن فيها جهاديين عربا وأجانب (من غير العرب).

الجهاديون الأجانب:

الإيغور: وينحدرون من قبائل التركستان الشرقية (سينكيانغ الصينية) ولهم (5000) مقاتل وفق رواية السفير السوري في الصين في عام 2017م، وإن كانت أغلب التقارير لا تحدد عددهم بالضبط، وقد أقاموا مجتمعاً صغيراً خاصاً بهم في قرى منطقة جسر الشغور في إدلب بعد أن جاءوا بعائلاتهم إلى هناك، كما أعلنوا تأسيس الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا.

كما يوجد في إدلب المقاتلون الأوزبك والقوقازيون لا سيما الشيشانيون، ويقدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – بحسب تقرير (BBC) – عدد المقاتلين الروس في سوريا بنحو أربعة آلاف مقاتل إلى جانب خمسة آلاف مقاتل من دول الاتحاد السوفيتي السابق هذا إلى جانب قلة من الجهاديين الأوربيين والجنسيات الغربية كالكنديين.

وأرى أن هذه الأرقام غير دقيقة بل مبالغ فيها جداً، حيث صدرت وتروج لها أجهزة الاستخبارات الروسية والغربية في معرض تبرير ضرب الجهاديين في سوريا.

هؤلاء الجهاديون الأجانب يواجهون صعوبة بالغة في التخفي وسط المدنيين بأشكالهم ولغتهم، ومن ثم لا مفر أمامهم سوى القتال حتى النهاية بعد أن سدت كل سبل العيش في وجوههم، خلاف الجهاديين العرب الذين تزوج أغلبهم من سوريات وعاشوا لسنوات في داخل سوريا ويمكن دمجهم وتخفيهم بسهولة في المجتمع السوري.

هنا لابد من تأكيد اختلاف هؤلاء الجهاديين (عرباً وأجانب) فكراً وتنظيماً مع القاعدة، بل وتقاطعهم وتقاتلهم معها في أكثر من معركة في الساحة السورية.

وأن أغلب الجهاديين العرب – من وجه نظري – شباب صغير السن تعاطفوا مع السوريين ووجدوا بغيتهم في الساحة السورية بعد أن سدت في وجوههم كافة منافذ المشاركة في بلدانهم نتيجة القمع والاستبداد والكبت والانسداد السياسي، في العالم العربي ولا سيما في دول الربيع العربي بعد تراجع الثورات، وهؤلاء لم يتأصل الفكر الجهادي لديهم ويمكن بسهولة إعادة توظيفهم لخدمة مجتمعاتهم وإدماجهم فيها متى وجدت البيئة الصالحة المحفزة لذلك. 

بنود الاتفاق (المعلنة):
  • إقامة منطقة منزوعة السلاح بعرض من 15: 20 كم تحت سيطرة دوريات مشتركة من الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية، على أن يتم إخلاؤها من الأسلحة الثقيلة بحلول 10/10/2018م.
  • انسحاب جميع الفصائل من المنطقة العازلة بحلول 15/10/2018م.

بينما سكتت الاتفاقية عن مصير الأسلحة الثقيلة التي سيتم إخلاؤها من المنطقة العازلة وهل سيحتفظ بها أصحابها (الجهاديون) أم سيتم تسليمها للجيوش النظامية بوصف الجهاديين منسحبين، كما لم تعلن الاتفاقية مصير الفصائل المسلحة المنسحبة من المنطقة العازلة وإلى أين ستتجه، هل ستبقى في إدلب متراجعة خلف المنطقة العازلة أم ستغادرها إلى جهة أخرى؟ وأين تقع هذه الجهة حيث لا مكان يتوجهون إليه في سوريا والعراق؟

مخاوف السوريين والجهاديين من الاتفاقية:

لأن مثل هذه الاتفاقيات تكون البنود غير المعلنة فيها أخطر بكثير من البنود المعلنة، فالمخاوف التي تثار كثيرة بشأن حقيقة هذه الاتفاقية وأهدافها ومرماها ومنها.

  1. أن يكون هدف الاتفاقية هو استئصال وتصفية الجهاديين في سوريا على مراحل، بدءًا بتحييد هيئة تحرير الشام وانسحابها إلى بؤرة محددة ثم رفع الغطاء عنها ومن معها من الجهاديين العرب والقضاء عليهم في مرحلة ثانية، بعد إنهاء المرحلة الأولى المتمثلة في مقايضة المقاتلين في إدلب بين الروس والأتراك بحيث تسلم تركيا الجهاديين غير العرب (الشيشانيين والإيغور والأوزبك) للروس مقابل تسليم روسيا لتركيا أعضاء منظمتي وحدات حماية الشعب الكردي (YPG) وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) واللذين تصنفهما تركيا على أنهما منظمتان إرهابيتان أو على أقل تقدير الإرشاد عن مواقعهما ومحاصرتهما ورفع الغطاء عنهما وتركهما للقوات التركية، ثم يكون بعدها الانفراد بالجهاديين العرب.

يعزز هذه المخاوف الرسائل غير المباشرة المتبادلة بين الطرفين الروسي والتركي قبل إبرام الاتفاق، حيث دفعت تركيا منتصف أغسطس/ آب الماضي بتعزيزات عسكرية مدعومة بالأسلحة والمعدات الثقيلة إلى الحدود السورية والمناطق التي يسيطر عليها الأتراك بالداخل السوري، بينما أجرت روسيا قبل الاتفاقية بأيام قليلة أكبر مناورة عسكرية في تاريخها منذ الحرب الباردة، وهو ما عنى بوضوح أن كلا الطرفين ماضٍ في مشروعه في سوريا من دون تراجع.

كما يعزز من هذه المخاوف بجدية أن المعني بتنفيذ مثل هذه الاتفاقيات في المقام الأول هي الأجهزة الاستخبارية (المدنية والعسكرية) والتنفيذ على الأرض يكون للقوات المسلحة، وهذه الأجهزة عموماً، سواء ببلدي الاتفاقية أو غيرهما، عملت لسنوات وفق مخطط محكم لتجميع الجهاديين في بقعة واحدة ليسهل عليها استئصالها، فكيف يمكن أن تتخلى فجأة عن هذا الهدف؟

المدافعون عن الاتفاقية:

بينما يرى المدافعون عن هذه الاتفاقية وفي مقدمتهم الأتراك ومن يؤيدونهم – وأنا منهم – أن الاتفاق المعلن هو الاتفاق الحقيقي من دون بنود سرية، وأن للطرفين – لا سيما الروس – مصلحة حقيقية في إتمامه بصيغته المعلنة، وإنهاء أو إرجاء مخطط تصفية الجهاديين، وأن مكاسب حقيقية ستجنيها روسيا وحلفاؤها من هذه الاتفاقية بخلاف ما تعكسه من حقيقة الموقف التركي تجاه القضية السورية ومن ذلك:

  1. تجنيب الروس وحلفائهم (إيران وحزب الله والنظام السوري) حرب شوارع غير مأمونة العواقب لا سيما وأن الجهاديين يجيدون هذا النوع من القتال وأن الضرب بالصواريخ والطيران لا يحسم معركة أبداً وإنما لابد من حرب برية، ستكون في حالتنا حرب شوارع أو بالأحرى من بيت إلى بيت لإنهاء معركة كهذه لا سيما وقد باتت إدلب آخر معقل للجهاديين ولم يعد أمامهم سوى القتال دونها حتى الموت.
  2. تمسك الروس بالحليف التركي رغم تقاطع المصالح بينهما في سوريا إذ لكلٍ منهما مشروعه المتعارض مع الآخر، إلا أن لدى روسيا معركة أكبر تحتاج فيها بقوة للحليف التركي حيث لم تدع السياسات العدائية الأمريكية لخصومها بدا من الاتحاد لمواجهتها في معركة طويلة الأجل ومن ثم لن تضحي روسيا بحليف مثل تركيا في معركتها ضد الولايات المتحدة، مقابل عدم ترك مساحة لها في سوريا أو مقابل معركة تصفية الجهاديين، وإنما لابد من العمل على بناء وزيادة المساحة المشتركة بين الطرفين في الساحة السورية والعمل على تعظيم مكاسب كلٍ منهما وترحيل الخلافات ولو مؤقتاً.
  3. توافق الاتفاقية مع حقيقة المشروع التركي في سوريا والذي يقوم على اكتساب ثقة المجتمع السوري في داخل وخارج سوريا بدءًا من إيواء اللاجئين السوريين وإغاثتهم وتعليم أبنائهم وفتح المجتمع التركي أمامهم للعمل والتجارة والتعليم، مروراً بإعادة إعمار وتنمية المناطق السورية التي يسيطرون عليها لتقديم نموذج لحصاد العمل مع الأتراك، وانتهاءً بالعمل بجدية ووضوح ودأب على حقن دماء السوريين وتجنيب المدنيين ويلات الحرب، ودعم نضال الشعب الثوري في سبيل نيل حريته، واكتساب تأييد الإسلاميين عموماً والمتعاطفين معهم، وهو ما لا يمكن أن يضحي به الأتراك مقابل الاتفاق مع الروس على صفقة تصفية الجهاديين. 
  4. أن عواقب هذه المعركة على تركيا – إن تمت – ستكون وخيمة، فبخلاف تقويض المشروع التركي في سوريا، ستواجه نزوح أكثر من مليون لاجئ جديد في ظل أزمة اقتصادية عميقة نتجت عن الحرب التجارية مع الولايات المتحدة فقدت فيها الليرة التركية (40 %) من قيمتها أمام الدولار، وهو ما حمل المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالن” لتهديد أوربا بشكلٍ صريح بأن تركيا لن تتحمل وحدها تبعة المعركة المزمعة في إدلب. 
  5. مشروع الرئيس أردوغان كزعيم يحمل الأمل للعالم العربي والإسلامي، والذي يكتسب مصداقية يوماً بعد يوم بإيواء بلاده لكل المعارضين العرب بخلاف اللاجئين السوريين والإيغور وغيرهم ودعمه لكل القضايا الإسلامية من القدس إلى الروهينغيا مروراً بسوريا، وهو ما لا يستقيم معه الاتفاق التحتي بتصفية الجهاديين.
التحدي الذي يواجه تركيا:

التحدي الحقيقي الذي يواجه تركيا هو إعادة تأهيل هؤلاء الجهاديين وإدماجهم واستيعابهم كطرف في العملية السياسية سواء بالفعل على الأرض أو في المفاوضات الجارية التي تدور رحاها برعاية دولية وحضور كل الأضداد المتشاكسين في الساحة السورية (تركيا وروسيا وإيران) في أستانة وغيرها.

لقد نجح أردوغان في الحصول على اعتراف الدول المتحاربة في سوريا بالفصل بين الإرهابيين والمعارضة السورية المسلحة وحقها المشروع في النضال، فهل سينجح هذه المرة في حماية الجهاديين ودمجهم في العملية السياسية، رغم وجود أطراف فاعلة في الساحة السورية تتمنى بل وستعمل واقعاً على إفشال هذه الاتفاقية، على رأسهم الإيرانيون وحزب الله ونظام بشار.

إن البناء على رصيد الثقة الذي تتمتع به تركيا لدى الجهاديين والتفاهمات السابقة مع “هيئة تحرير الشام” التي كان مقاتلوها يرافقون القوات التركية أثناء إقامة تركيا لنقاط مراقبتها العسكرية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في إدلب وحلب وحماه قبل أشهر لا تكفي مطلقاً لإدماج هؤلاء في التسوية السياسية وإقناعهم بحل كتائبهم العسكرية وتكوين أحزاب سياسية يشاركون بها في العملية السياسية.

إن نجاح تركيا في هذه الاتفاقية لمنتهاها يعني بشكلٍ مباشر – إلى جانب حماية إدلب والثورة السورية – استخدام الأتراك للجهاديين كورقة ضغط لدعم مشروعهم في سوريا بعد أن باتت المتحدث الرسمي والوحيد باسمهم ولتصبح تركيا صاحبة النموذج الأول في التعامل مع الجهاديين وإعادة تأهيلهم لخدمة مجتمعاتهم وإدماجهم فيها.

فهل يمكن أن نرى هذا النموذج يتحقق واقعاً؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه