ختام زفة برلين

مشهد الزفة المصرية كان غريبا في دولة جادة كألمانيا، أوقات الناس فيها محسوبة بالدقيقة والثانية، فكان السؤال: من أين أتى هؤلاء الناس “المهمون” بالوقت؟.. يتبع.

صلاح سليمان*

كشفت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى ألمانيا جانباً كبيراً من سياسة ” الزفة” أو البروباجندا التي تجتاح المشهد السياسي الحالي في مصر، فالدولة المصرية العريقة سلمت وجهها إلى مجموعة من الإعلاميين المتعثرين، ورجال الأعمال، ومقاولين الأنفار يرسمون وجهها، ويخططون بأقلامهم المشوهة تعاريج وحفرا وندوبا ليظهر وجهها قبيحا كما ظهر في ألمانيا، الدولة المنضبطة الراقية الأكثر تحضراً في أوروبا .عندئذ لم تتردد مجلة “ديرشبيجل” الألمانية واسعة الانتشار في توجيه النقد للإعلامين المصريين الذين صفقوا لرئيس بلادهم مرتين، حسبما ذكرت المجلة على موقعها،  أثناء وقائع المؤتمر الصحفي مع “ميركل” وهتافاتهم المتكررة تحيا مصر في نهاية المؤتمر، واصفة ذلك الحدث بأنه غير مسبوق في المؤتمرات الصحفية التي تعقد في دار المستشارية، ما سبب شعورا بالحيرة والارتباك للمستشارة الألمانية . ووصفتهم أيضا صحيفة “فرانكفورتر الجماينة تسايتونج” بالمصفقين المستأجرين.

سلطة الاعلام
 الإعلام في ألمانيا بشكل عام يبني مجده على اكتشاف أخطاء وفساد الحكومة، والوزراء والمسؤولين الرسميين في ألمانيا، وهو سلطة قوية تلعب دوراً رقابياً صارماً لكل من تسول له نفسه من السياسيين الذين يعتلون المناصب الكبري السير في طريق الفساد والإفساد وعقد الصفقات المشبوهة.
 لقد كشفت الصحافة الألمانية الكثير جداً من عمليات الفساد والنصب والاحتيالات السياسية،  وهناك سلسلة طويلة من الأسماء التي أوقعتها الصحافة الألمانية، أتذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر استقالة وزير الدفاع السابق “كارل تيودور تسوجوتنبرج” ووزيرة البحث العلمي  السابقة “أنيتا شافان” بسبب اقتباس متعمد  دون ذكر المصدر من رسائل أخرى في رسائل الدكتوراه التي حصلوا بها علي درجتهم العلمية، كما استقال من قبل “ردولف شاربنج” وزير الدفاع الألماني الأسبق علي خلفية فضيحة إهدار أموال  الدولة، التي كشفتها صحيفة “بيلد تسايتونج” عندما سافر إلى فرانكفورت في طائرة تابعة للجيش الألماني في رحلة خاصة للقاء صديقته  في  مدينة فرانكفورت، .كما استطاعت أيضا نفس الصحيفة  إطاحة الرئيس الألماني السابق “كريستيان فولف” عندما كشفت أنه أخفي عن برلمان ولاية سكسونيا السفلي قرضا مالياً بنصف مليون يورو عندما كان رئيسا لوزراء الولاية، ولم يذكر ذلك في تقرير الذمة  المالية التي تقدم بها إلى البرلمان. عندئذ شنت الصحيفة عليه هجوما حادا آنذاك قائلة  إن ذلك الإخفاء المتعمد يشكك في مصداقية الرئيس الألماني ويضعه على المحك ، ونبهت إلى أنه لا يجوز لمن يعتلون تلك المناصب الرفيعة في الدولة  أن يقعوا في مثل هذه الأخطاء فقرر الرئيس الاستقالة على الفور.

 

 الانتقادات البشعة
هذه هي الصحافة الألمانية التي لم تعجب الإعلاميين المرافقين للرئيس المصري، حتي أن أحدهم  وصف حجم الانتقادات الموجهة للرئيس السيسي “بالبشعة ” كما قال آخر إنها ظالمة لأنها لا تعرف الحقيقة، لهذا نشر رجل أعمال من المرافقين في الرحلة إعلانا علي شكل مقال مدفوع بحجم صفحة كاملة في واحدة من أهم الصحف الألمانية، رغم الثمن الباهظ، وهي صحيفة “فرانكفورتر الجماينة” ليخلق حالة مزاجية للوفد تتوافق مع ما ينشر في مصر، خاصة بعد ما شعر الوفد بالغربة في بلد ديمقراطي، الصحافة فيه حرة، ومعيار النجاح الوحيد فيه هو الكفاءة والاجتهاد، وليس المحسوبية والواسطة والفساد الاجتماعي.
 لم يكن الإعلاميون المصريون مهتمين بدراسة أي شئ في التجربة الألمانية  قدر انشغالهم بالزفة البلدي التي تقدم عروضها في شوارع برلين، فكانت الأسئلة تتوالي من مقدمي برامج التوك شو المسائية عن عروض هذه الفرقة، كم عدد المتظاهرين المؤيدين؟ وهل تفوقوا علي مظاهرات المعارضين؟ وما هي الشعارات التي يرددونها؟ ومن أي المدن جاؤوا؟ وغيرها من أسئلة تافهة ليس لها علاقة برحلة سياسية لرئيس الدولة. حتي أن مذيعة مصرية سألت الفنان أحمد بدير أحد أعضاء الزفة  قائلة بما أنك في مهمة رسمية وطنية خارج الوطن، صف لنا كيف استقبلت الحشود عندكم سيادة الرئيس؟
 مشهد الزفة المصرية كان غريبا في دولة جادة كألمانيا، أوقات الناس فيها محسوبة بالدقيقة والثانية، فكان السؤال الذي طرحه الألمان من أين أتى هؤلاء الناس”المهمون” بالوقت؟ ليسافروا في مهمة هدفها الوحيد هو أن يقفوا طيلة النهار في الشارع ملوحين بالأعلام، سائرين وراء الرئيس أينما ذهب؟ وقد وصفهم صحفي ألماني بأنهم كرابطة مشجعي كرة القدم يرابطون أمام الفندق الذي يقيم فيه رئيس الدولة يرقصون ويغنون.

 
 التسويق للداخل
إن مليون سائح ألماني يزورون مصر سنويا قبل تردي الأوضاع الأمنية في البلاد، لكن المرافقين أو المنظمين  للرحلة لم يحاولوا استغلال المناسبة والقيام بدعاية فعالة مثلا للسياحة!! أو محاولة إعادة الثقة لهم لزيارة مصر! كما لم  يكن  هناك اهتمام  أصلا بمقابلة أفراد الجالية المصرية، ولا حتي الدارسين المصريين في الجامعات الألمانية، ومحاولة شرح الأوضاع السياسية لهم، وطمأنتهم للعودة الي مصر والاستفادة من علمهم.

 كل هذا لم يكن له أي أهمية تقابل أهمية تسويق الزيارة كزيارة ناجحة للداخل المصري حتي أن السفارة المصرية وضعت برنامج الاحتفال برئيس الجمهورية وأماكن وتوقيتات المظاهرات علي صفحتها الرسمية قبل أن تقوم بعد ذلك بحذفها بعد السخرية منها علي مواقع التواصل الاجتماعي.
 من ناحية أخرى أجمعت الصحافة الألمانية علي أن “ميركل” فضلت مصالح ألمانيا وضغوط شركة سيمنز التي من المنتظر أن تضخ استثمارات تصل إلي 12 مليار يورو في بناء محطات للطاقة في مصر علي المبدأ الأخلاقي المناهض لحكم الاستبداد  في مصر، كما أنها اكتفت بنقل وجهة نظرها المعارضة لأحكام الإعدام من دون الحصول علي إجابات قاطعة في هذا الشأن من الجانب المصري، واعتبرت الصحف كذلك أنها مكنت الرئيس المصري من استغلال  منبر مهم كألمانيا لإعادة تقديم نفسه كرئيس يثور بشأنه جدل كبير .

 الملف المغلق
كتب الصحفي  “إيفو مارسوزيسكي” مقالاً علي موقع الإذاعة البافارية  بعنوان “زيارة الرئيس المثير للجدل”  تحدث فيها عن الملفات التي ناقشها الرئيس السيسي في ألمانيا  وهما الملف الاقتصادي والملف السياسي، وقال إن الملف السياسي كان شبه مغلق أمامه، إذ إن الخلاف حوله كبير بين مصر وألمانيا ، فهناك 40 ألف معتقل سياسي، وهناك أحكام بمئات الإعدامات،  كما أن الرئيس السيسي نفسه قال في تسريب له إن  الجيش إذا تسلم مقاليد السلطة فالديمقراطية في البلاد  قد تأخذ من 20 إلى 30 سنة حتي تتحقق، لهذا السبب لم يكن أمامه إلا الملف الاقتصادي الوحيد المفتوح والذي حاول أن يستثمره  في نجاح الزيارة.

______________________

*كاتب صحفي مصري مقيم في ألمانيا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه