تسريبات من سوريا!

 أحمد عمر*

 احتفت الصحافة العربية بكتاب فاروق الشرع ” الرواية المفقودة”، وأثنت على لغة الشرع، وأسلوبه النادر بين الساسة العرب المعاصرين، ووصفت المذكرات “بالروائية “، في الوقت الذي تَعدُ فيه القنوات المصرية المعارضة، بتسريب مسلسل مكسيكي من آلاف الساعات الانقلابية بين أعضاء فريق الانقلاب “الرياضي” الحاكم بأمر أمريكا. ويندب مراجعو الكتاب الخمسينيات والستينيات، ومذكرات السياسيين العرب ولغتهم الراقية، وشجاعتهم، ويذكر أحدهم بالدبلوماسي محمود رياض، وخالد العظم ومذكراته، ومذكرات عبد الله أبو حبيب .. أما مذكرات وزير الدفاع السوري الشهير بلقب “البقرة الضاحكة”،  وكتابه المعنون بـ” مرآه حياتي” فهو كتاب جعل  قادة إسرائيل سعداء “بالشيف طلاس”، الذي يتباهى في الكتاب بأنّه  كان يتجسس على تنانير البنات ليعرف أسرار القوة العسكرية عند الأعداء، وهو فتى، كما أنّه تباهى بغزواته النسائية الكثيرة، وأشهر فتوحاته العسكرية، هي مع  الفنانة الايطالية “جينا لولو بريجيدا”، و من غزواته العسكرية محاولة الاعتداء على وزير خارجية فنلندا  “تاتا هالوتين” مرتين، وأؤمن يقيناً أنّ النظام اختاره وزيراً للدفاع باعتبارها دولة مقاومة وممانعة، فهو أنسب من يكون وزير للدفاع في هذا الوقت الحرج من تاريخ أمتنا المضحك، وأنّها كانت تتقصد تسريب  هذه المعلومات إلى الصحافة، كي تثبت أنّها دولة مثل كل دول العالم فيها تسريبات، في الوقت الذي تكتم بالاسمنت المسلح معلومة مهما صغرت عن رجالها الذين يحكمون من وراء سد “ذو القرنين”. وقد وصف إبراهيم حميدي في مراجعته للكتاب بأنّ الشرع “قليل الكلام”، وهو تعبير دبلوماسي عن وزير سني، تحوّل إلى  رجل باطني، حتى يستمر في الحياة السياسية، فالكتاب مذكرات في الخارجية، المذكرات الداخلية شبه معدومة، والباحث يبحث بالمجهر عن تفصيل يتعلق بالشأن الداخلي، أو السياسة الداخلية،  أو فلسفة الحكم الطائفية المقنّعة، وأن الموضوع الأثير في الكتاب  هو “التوازن”، لا أدري إن كان يقصد أنّ الشرع يكتب كمن يمشي على حبل مشرف على هاوية ،  فالمرة الأولى التي ظهر فيها ليتحدث في الشأن الداخلي في فندق “صحارى”، كانت القاضية، فلا أحد يعلم شيئاً عن حياة الشرع  بعدها،  فضلاً عن  أنّ يقابله.  هل يقيم إقامة جبرية؟ هل سينتحر برصاصتين في الرأس؟ لا أعتقد  أنّ الشرع يعرف تفاصيل كثيرة ، وقد فجعنا بضحالة  الأسرار التي  زعم النائب المنشق عبد الحليم خدام أنّه يعرفها، وكان يتباهى بأنّه الرجل الثاني في النظام!  فانبرى له الشرع في اليوم نفسه ليقول صادقاً: أنت لست حتى العاشر. وأحسب أنّ الشرع دفع دفعاً لهذا التصريح، وتمت ترقيته نكاية بالخدام  لا إكراماً للشرع،  فالوزارات  هي قناع سياسي أما عِظام الحكم، فهم رجال الطائفة العسكريون. يمكن القول أنّ وزارة الخارجية كانت سفارة كبيرة، فالمعروف أنّ الرئيس عندما يريد التخلص من أحد كبارة القادة، يعنيه سفيراً في دولة بعيدة أو قريبة.
 لا تزال سورية “الجوزة القاسية” وأنّها تحطمت كثيراً، لكنها لا تزال بحاجة إلى مطارق حتى كشف أسرارها، وقد منّ النظام على الشعب السوري بعد وفاة ” الأب القائد”، بأنّ ظهر وريثه الجمهوري بقميص نصف كم، فاعتبرها الشعب السوري تنازلاً كبيراً  من الرئيس، الذي أظهر للشعب بعضاً من عورته، ولحمه الحي، واعتبرها شفافية في الحكم!
  لا تسريبات مهمة بالصوت، القناع ملتصق باللحم، إذا نزع القناع مات المقنّع. تبيّن أنّ كثيراً من  المخبرين المنشقين من الطائفة الكريمة مندسون على الثورة، مثل آفاق أحمد مثلاً، وقد عرفنا كثيراً من الأسرار بعد شهادات لقادة أمنيين وعسكريين، لكن ثمنها كان الكثير من  الدماء، ويصف أسعد أبو خليل الكتاب بأنّه لم يشف غليل القارئ، الغليل مغلول، ويغلي..ولا يزال.
يروي الشرع، “آخر البعثيين المحترمين”، أنّ الأسد كان طياراً قليل الكلام، وهذا الوصف نفسه تم إسباغه على الشرع في مقال المراجعة الصحفية، فمن يترك نفسه على سجيتها يقتل، الأسد الأب والابن، يستحيل أن يكتب مذكراته، لا أعرف مذكرات لسياسي علوي؟ يروي الشرع أنّ الأسد كان شغوفاً بالتاريخ، أعتقد أنّه كان شغوفاً بالانتقام منه، وبشخصيات معينة منه، أولها معاوية بن سفيان،  الذي تكثر  مناحات اللطم الحسينية في  عاصمته، وجامعها الأموي،  فقد تهيأ للأسد أنّه انتقم منه بعد ألف سنة، لكن سيرى التاريخ العاقبة لمن تكون في النهاية.
 لكن وأنا أتابع بعضاً من الشهادات التي التق أصحابها بالأسد الأب أو الابن، أحدها شهادة “أنس سويد” شيخ جامع حارة باب السباع، التي انطلقت فيها أولى مظاهرات الثورة  في حمص، أنّه اشتكى للأسد في ثاني لقاء، أنّ المخابرات  اعتقلته بعد خروجه من اللقاء الأول،  وأنّهم سجلوا حواره  معه ( الرئيس ) في “تسريبات مدبرة” سلفا، وحققوا معه: كيف يوجه إلى الرئيس أسئلة، ويحاوره محاورة الند للند ! وقتها نقل عن الرئيس قوله: “اعتقلوك ، كويس أنّهم لا يعتقلوني أنا” !
وشهادة حية من أحد شيوخ حماة  كان التقى بالأسد في وفد علماء، وأنّهم فوجئوا بمفتي الرئيس يقابلهم تمهيداً للقاء الرئيس، ويطلب منهم أن يهتفوا باسمه مثل طلائع البعث عند قدومه، فرفضوا، فهم جاوزا سن طلائع البعث وصاروا من طلائع الموت، عندها ظهر الرئيس الذي كان يراقب الوفد من مكان خفي، بأنّه في غنى عن هتافهم، فعنده الملايين تهتف وتصفق له! أكثر الشهادات فائدة وتسريباً كانت شهادة الفنان الشعبي الكوميدي الحلبي همام حوت، الذي فاجأنا بقول عند حضور الرئيس مسرحيته  الكوميدية التي بلغت مدتها أربع ساعات، إن الرئيس بعد أن واعده على لقاء في مطعم حلبي،  سأله مستغرباً، لا يسأله رئيس جمهورية،  وأنّما رئيس فرع أمن سوري: “أنت مين اللي وراك”؟
 رئيس جمهورية يستغرب شجاعة فنان ناقد ! فقال الفنان الحلبي: “أنت اللي وراي” لكن الرئيس بقي يكرّر سؤاله، فياله من سؤال استراتيجي من زعيم دولة تلعب دوراً إقليمياً في الشرق الأوسط !
 لا تسريبات كبيرة في كتاب الشرع الروائي، فليس لدى الكولونيل من يسرِّب له، ولولا الثورة لبقيت الجوزة صعبة الكسر. ولعلها تشققت، ونضجت بمطارق الدم السوري. التسريبات في سوريا شحيحة، لأنّ “العز للرز،  أما البرغل فشنق حاله”

_________________

*كاتب سوري مقيم في ألمانيا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه