نور الدين عبد الكريم : الحلال والحرام في الموسيقى

نور الدين عبد الكريم*
كتبت هنا مقالا سابقاً عن حكم الموسيقى في الفقه الإسلامي، ووجدت أنه  من الواجب، متابعة ما ورد في ذلك المقال بتوضيح واستفاضة في مقال لاحق. وذلك بعد استفسارات عدة وانتقادات متتابعة، وصلتني إما مشافهة، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كان الهدف في المقال السابق مجرد تسليط الضوء إلى أن المسألة ذات خلاف فقهي، وقد وردت فيها عدة آراء معتبرة، وبالتالي يصح أن يرد فيها عدة أحكام حسب وجهة نظر كل مجتهد. وتحقيقا لهذا الهدف، جاء الكلام مقتضباً وموجزاً في عرض الأدلة وأوجه الاستدلال، وربما هذا ما جعل الكلام موطن شك وعدم قبول عند بعض القراء.
يمكن تصنيف مجمل الاعتراضات والاستفسارات التي قيلت في ثلاثة أصناف، والتي ستكون محاور هذا المقال. أولا: أنه لم يثبت عن الصحابة الاستماع للموسيقى (أو المعازف)، ولا القول بتحليلها. ثانيا: أنه قد انعقد اجماع علماء الأمة على القول بتحريم الموسيقى، وهذا هو الرأي المتبع في المذاهب الأربعة، فالقول بأنها حلال، أو مسألة خلافية، يعد كلاما مخالفاً لجمهور الفقهاء. وثالثا: أن طرح المسألة للنقاش يسبب الفتنة، وتضليل الناس عن دينهم. فما الفائدة المرجوة من ذلك؟. وبما أن المقال السابق اعتمد على كتاب الدكتور عبد الله الجديع، فسيكون التوضيح هنا من كتابه أيضا.
في عهد الصحابة
وردت عدة آثار تثبت أن الصحابة والتابعين كانوا يترنمون ويتغنون بالغناء الشعبي الدارج في زمانهم، والمتعارف عليه وقت ذاك، والذي كان يعرف بــــ “النَّصْب”، وكانوا يتسلون به في أسفارهم، وأعمالهم، ليدفعوا به السآمة عن أنفسهم. ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه قال: “ما أعلم رجلاً من المهاجرين إلا قد سمعته يترنم” وفي رواية: “يغنّى النَّصْب”. وكذلك ورد عن مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا في طريقهم إلى الحج ومعهم عمر بن الخطاب، وهم محرمون، فاستأذنوه أن يغنيهم أحد المعروفين بحسن الغناء واتقان مقامات العرب، وهو رباح بن المغترف، فقال له عمر: “يا رباح، أسمِعهم، وقصّر عنهم المسير، فإذا أسحرت فارفع”، أي توقف عند بلوغ وقت السَّحر. وورد أيضا في أثر صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلا يتغنى بفلاة من الأرض، فقال: “الغناء من زاد الراكب”.  
فهذه الآثار الصحيحة توضح أن الصحابة لم يكونوا يتحرجون من التغني بالأغاني الشعبية الدارجة في زمانهم، بل كانوا يستحبونها في سفرهم وترحالهم للتخفيف والتسلية. وقد يردّ البعض بعدم حجة هذه الأدلة لأنها تتحدث عن الغناء المجرد من الموسيقى، فنقول، أن هذا صحيح، ولكن من المعروف، أن آلات العزف في ذلك الزمن لم تكن متنوعة، أومتوفرة، أو مختلفة، كما هو الحال عليه الآن، فهي كانت محصورة بالدف، والمزمار، والعود. وعلى الرغم من ذلك، فقد وردت بعض الآثار التي تثبت استخدام ما توفر من هذه الآلات في ذلك الزمان، واستماع الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم إليها. فمن ذلك ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام استمع إلى جاريتين يضربن بالدف ويتغنين، وكان من ضمن الكلمات التي يتغنين بها: “وفينا نبيٌ يعلم ما في غد”، فصححهن عليه الصلاة والسلام، وقال: “أما هذا فلا تقولوه، ما يعلم ما في غد إلا الله”. وكذلك ما عرف أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، كان مشهورا بحبه للاستماع للموسيقى والغناء، على الرغم من ورعه وتقواه، وكثرة قراءته للقرآن بالليل، حتى أن معاوية بن أبي سفيان امتدحه وقال: “هكذا قومي، رهبان بالليل، ملوك بالنهار”.
وقد وردت عدة أثار تثبت أن اللهو والتسلي كان معروفاً في زمن الصحابة، ولكن كان كل شيء بمقداره، فهم لا يحرمون أنفسهم التسلية والدعابة وقت الراحة، وفي نفس الوقت لا يظهر منهم تأخر أو تقصير في وقت الجد والاجتهاد. فقد روي عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: “كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبادحون البطيخ (أي يرمون به بعضهم البعض)، فإذا كانت الحقائق، كانوا هم الرجال”.
والموسيقى والغناء كانت أحد وسائل التسلية التي ثبتت عنهم عليهم رضوان الله، وكذلك لم يكونوا يفْرِطوا فيها لدرحة أن تمنعهم عن ذكر الله وأداء حقه سبحانه وتعالى. أما ما ورد من أقوالهم في تحريمها فهي محمولة على اتخاذها وسيلة للمعصية، وهو حكم غير أصيل فيها.    
الموسيقى والإجماع
ذكر الدكتور الجديع أن الترخيص بالغناء والموسيقى كان أمرا مشهورا عن “آل الماجشون”، وهو لقب يعقوب بن أبي سلمة، وأُطلق هذا اللقب عليه وعلى أهل بيته وبيت أخيه عبد الله، وكانوا من فقهاء المدينة، من التابعين ومن تبعهم. فروي عنه أنه كان يعلِّم الغناء، ويتخذ القيان (المغنيات من الجواري)، وكان أول من علّم الغناء من أهل المروءة، وكذلك كان حال ابنه يوسف، الذي يقول عنه يحيى ابن معين: “كنا نأتيه، فيحدثنا في بيت، وجوارٍ له في بيت آخر يضربن بالمعزفة”، وقال أيضا: “هو واخوته وابن عمه يُعرفون بذلك (أي جواز الغناء والموسيقى)، وهم في الحديث ثقات، مخرّجون في الصحاح”. وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي عن أحد أبناء هذا البيت وهو عبد الله بن عبد العزيز بن أبي سلمة، الذي كان من أتباع التابعين ومفتي المدينة وفقيهها، أنه:”يرى التسميع (أي الغناء)، ويرخص في العود”.
وكذلك ورد عن أحد أتباع التابعين، وهو إبراهيم بن سعد، الذي كان يعد أحد الثقات الحفّاظ الكبار، واحتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما، ورد أنه كان يجيد صناعة الغناء، وكان يجيز الموسيقى.
أما فيما يخص المذاهب الأربعة، فلم يرد عن أبي حنيفة قول صريح بتحريم الموسيقى والغناء، بل ورد عنه جواز بيعها، وهذا دليل جواز اقتنائها، مع الكراهة، وفُهمت هذه الكراهة على أنها كراهة تنزيهية لا تحريمية. وكذلك مذهب الإمام مالك، فلم يرد عنه قول بالتحريم وإنما الكراهة. وما ورد من القول بالتحريم عن الإمام أبي حنيفة أو مالك فهو فهم الأتباع لهما، لا تصريحا منهما. أما الامام الشافعي، فلم يصرح بالتحريم، ولم يحرم الغناء، وإنما كره الإغراق فيه، وأباح يسيره دون كراهة، وشدد في بعض الآلات، كالطبل والمزمار. أما الإمام أحمد بن حنبل، فالمفهوم من كلامه أنه ذهب إلى التشديد في الموسيقى وتحريمها، إلا في مناسبات كالدف في الأعراس، والطبل في القتال.
فهذه الروايات (وغيرها) في مجموعها، ترد على من يدعي تحقق الإجماع في تحريم الموسيقى، وتبين أن القول بالتحريم على الإطلاق نقلا عن جمهور فقهاء الأمة على مر العصور، إنما هو كلام غير سليم ولا يقوم مقام الحجة. بل إن هذه الروايات تدل على أن التحريم يكون حين تكون الموسيقى سبباً للهو المحرم، وترك الواجبات والطاعات.      
الموسيقى والفتنة
ومن الأمور التي قيلت عن المقال السابق أيضا: أنه يتسبب في فتنة المسلمين، ولا يرتجى منه فائدة في هذا الوقت. وهذا ادعاء لا أفهم مغزاه. هل توضيح أصل المسألة وسعة الخلاف فيها يعتبر فتنة للمسلمين؟ أم الفتنة هي تغييب الرأي الآخر وادعاء بطلانه أو عدم وجوده؟
من المعلوم أنه من لطف الله سبحانه وتعالى بنا أن جعل ثلاثة أرباع ديننا محل اجتهاد وخلاف، وهذا ما يميز ديننا الإسلامي عن غيره، ويخصه بالديمومة والحيوية والتجديد. فلماذا نحجب الحقيقة عن أعين الناس؟
فمصادر الأحكام الرئيسية في الفقه الإسلامي هي القرآن والسنة. وهي على أربعة أحوال: إما قطعية الثبوت قطعية الدلالة، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة، أو ظنية الثبوت ظنية الدلالة. فالحالة الوحيدة التي يكون فيها الحكم قطعياً لا يتوقع أن يرد خلاف فيه هي حينما يكون الدليل قطعي الثبوت والدلالة، والحالات الثلاثة المتبقية يكون فيها الاجتهاد والختلاف. فهذه من نعم الله.
وبالنظر إلى الأدلة الواردة في حكم الموسيقى نرى أنها من المسائل الظنية التي يطولها الخلاف، ويصح فيها تغير الحكم حسب الحالة والوضع التي ترد فيه. وبطبيعة الحال لا يقبل الاجتهاد إلا من أهله الذين درسوا وتتلمذوا العلم بالشكل الصحيح. وما أنا هنا إلا ناقل عن أحدهم هو الدكتور عبد الله الجديع.
________________________________

*كاتب أردني وباحث في الفقه الإسلامي

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه