متى سيعود الساروت إلى حمص؟

عُد بي إلى حمصَ ولو حشو الكفن…

هذا ما قاله الشاعر المهجري عبد الباسط الصوفي.. وهذا ما أسرّه في نفسه عبد الباسط الساروت.

مع الفارق الكبير بين الهجرة سعياً وراء الرزق والتهجير من أجل الكرامة والحرية. إلا أنّ الحنين للعودة قضى على الشاعر وعلى المغني أحدهما ذبحته الغربة والثاني قتله النظام المجرم الذي ذبح خيرة شباب سوريا في المعتقلات تحت التعذيب، وفي المعارك وفي القصف الشرس على المدن الثائرة.

من بين صور الساروت التي أغرقت الفيس بوك صورة أدار فيها ظهره للكاميرا “للحياة” وخطا بسلاحه في خندق لا نهاية له.. هذه الصورة لخّصت موقف الساروت من الثورة التي أرادها في البداية سلمية تنتزع الحق من حلوق الطغاة بالأغاني والتظاهر وأجبره نظام الأسد حين قتل أخوته وأباه وحاصره على حمل السلاح وحتّى خروجه من حمص كان داخل عزلته وحصاره يرسم وطناً حراً بحنجرته وأغانيه ليكتشف بعد الخروج أنّه لا سبيل لاستعادة الحق بالأغاني ولا بد من حمل السلاح. فقاتل حتّى استشهد.

في بداية الثورة

منذ بداية الثورة عشق الأطفال أغانيه وردّدوها خلفه في مظاهراتهم الشّخصية الصّغيرة داخل جدران البيوت وعلى الشرفات وفي ساحات المدارس.. المدارس التي أشعلت حقد الأسد فقصفها ببراميله ليقتل أكبر عدد من أطفال المدن الثائرة ومن الكادر التعليمي ولتتحول تلك المدارس إلى ركام تنطلق من حجارته أصوات الراحلين يرددون خلف الساروت “جنة جنة جنة سوريا يا وطننا”.

في بداية الثورة نسجت لعبد الباسط كنزة من الصوف بألوان علم الثورة ومعها “كوفية” بألوان علم الثورة كي تحميه من البرد.. الشاب الذي سيحملها إليه اعتقل، واقتحم الجيش المدينة، وداهموا بيتي، خبّأت الكنزة والكوفية بكيس نايلون أسود ورميته داخل خزّان المياه على السقيفة.. حين اقترب الجندي من سٌلّم السّقيفة وصعد الدرجات وأضاء بمصباحه اليدوي عتمتها خفق قلبي بشدة.. كنت أسمع أصواتاً قادمة من الخزّان تقرع أذنيّ بعنف “سوريا بدا.. ويرد عبد الباسط: حرية” كاد يغمى عليّ حين سألني المجند ” هل الخزان مليء بالمياه؟”.

قبل أن أجيب امتدت يدي إلى حنفية المغسلة قربي وفتحتها ليرى المجند أنّ الخزّان ملآن.. المفاجئ أنّ الماء التي تدفقت إلى الخزان كي تعوض ما تصرفه الحنفية كانت ترتطم بشيء يجعلها تندفع إلى سقف السقيفة في حركة ارتدادية لم يستوعبها المجند الواقف على السُّلّم..

الضابط الواقف قرب الباب أنقذ الموقف حين صرخ به:

_ماذا تفعل هناك؟ انزل بسرعة وقم بتفتيش الغرف الدّاخلية.

بقيت السترة الصوفية في الخزّان أشهراً أقام خلالها الجيش حواجزه في الشارع الذي أقيم فيه ومداخل البلدة وعمل على تفتيش الحافلات الداخلة والخارجة وعلى الرغم من عدم تفتيش النساء في الأشهر الأولى لحصار البلدة إلا أنّي لم أجرؤ على تهريب السترة والكوفية خارج المدينة.

بعد ذلك بسنة نزحت..

وحوصر عبد الباسط في حمص.. وقلّبتنا الحياة على جمرها وحين عدت بعد تحرير البلدة وقد نسيت السترة والكوفية وفي الليلة الأولى التي قضيتها في بيتي سمعت أصواتاً قادمة من الخزّان تنادي: “سوريا بدا.. حرية”

لا أعرف من المقاتل الذي ارتدى السترة والكوفية، ولا أعرف مصيرها.. لكني بقيت أسمع هذا النداء الخالد أينما ذهبت.

لاعب لكرة القدم

كان يمكن لهذا الشاب اليافع أن يكون نجماً لامعاً في عالم كرة القدم فقد كان حارس منتخب الشباب في سوريا قبيل الثورة، وبفضل مهاراته الكروية وأخلاقه النبيلة استطاع أن يحتل قلوب الناس بأخلاقه وطيبته، وقد حاز شهرة واسعة داخل حمص مكّنته من تصدّر المشهد أيام المظاهرات السلمية، وشكّل مع الراحلة فدوى سليمان رداً عاصفاً على فكرة الطائفية التي دأب النظام الاستبدادي على تكريسها بشتى السبل فاكتسب بذلك مزيداً من المحبة والانتشار على مستوى الوطن، وكان من الطبيعي جداً أن تنطلق حناجر الناس فيما بعد بالهتاف أثناء المظاهرات: (عبد الباسط .. الله يحميك).
لقد استطاع بحق أن يكون نموذجاً للبطل الشعبي وبالتالي رمزاً من رموز النضال ضدّ الظلم والاستبداد، فقد خرج من بيئة بسيطة شعبية استمع لها وآمن بمطالبها وعمل على تحقيق أهدافها في العيش الكريم، ولم يتخلّ عنهم حتى في أشد ظروفهم قسوة وذلك أثناء حصار حمص الشهير التي اضطرته لأن يشكل كتيبة شهداء البياضة لأجل فكّ الحصار عن حمص، ولن ينس الناس معركة الطحين التي استشهد فيها أخويه وعدد كبير من رفاقه.
مع ذلك لم يستسلم فبعد رحلته بالباصات الخضر عاود النضال ضمن جيش العزة الذي يشكّل آخر ما تبقى مما كنّا نسميه الجيش الحر، ولم يتخلَّ أيضاً عن الغناء فقد أرسل إلى أمه أغنيته الشهيرة (يا يمة جيتك شهيد.. زفيني بثوب جديد) أدار ظهره للعالم وسار في خندق الكفاح إلى أن طبعت أمّه قبلتها الأخيرة على جبينه، وودّعته كما ودّعت زوجها وأخويها وأربعة من أبنائها وحفيدها قبل أن يكون عبد الباسط آخر العنقود وخامس الشهداء، وزفّه الألوف من محبيه ورفاقه إلى مثواه الأخير.

عبد الباسط..

ما زلت أسمع صوتك مع تدفق المياه مكرراً أغانيك وحالماً بالعودة إلى حمص… ولو حشو الكفن!

لن يطول انتظارك ففي الحلم رأيت ألوفاً من الشباب تسير صوب حمص حاملة رايتك.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه