معركة “القصر الكبير”.. حين كسر المغاربة إمبراطورية البرتغال وأنهوا طموحاتها العالمية

تجسيد لملحمة "القصر الكبير" أو "وادي المخازن" أو "الملوك الثلاثة" (مواقع تاريخية)

يحفظ التاريخ الإسلامي لبلاد المغرب وأهلها العديد من الأيادي البيضاء في مجالات العلم والجهاد والثقافة والعمران.

ومن الملاحم البطولية لأهل المغرب انتصارهم على إمبراطورية البرتغال في معركة “القصر الكبير” أو “وادي المخازن” أو “الملوك الثلاثة”، التي حدثت على ضفاف وادي المخازن بالقرب من مدينة القصر الكبير التابعة لإقليم العرائش على المحيط الأطلسي، وكانت المعركة السبب في إنهاء آمال إمبراطورية البرتغال الشابة وغيّرت مجرى التاريخ بعدها.

نهوض البرتغال

عرف الجوار المغربي البرتغالي العديد من الصراعات والمعارك على مدار قرون وذلك مع بداية الحروب البرتغالية -التي استمرت أكثر من 200 سنة- للاستقلال عن الأندلس حتى حصلت عليه عام 1139، واسترجعت كل أراضي مملكتها سنة 1249.

تألقت مملكة البرتغال الشابة بما ورثته من حضارة المسلمين في الأندلس، وهو ما جعلها تصبح في مدى قصير من أقوى الدول البحرية في العالم وأول إمبراطورية عبر البحار والمحيطات، في حين كانت أوربا تعيش ظلمات العصور الوسطى.

كانت البرتغال تحمل كراهية وحقدًا ضد المغرب الكبير لدعمه المستمر للمسلمين في الأندلس، لذا تطلعت عيون ملوك البرتغال إلى احتلال المغرب وإخضاعه.

وفي 1415 عبر أسطول برتغالي مضيق جبل طارق واحتل مدينة سبتة وميناءها الشديد التحصين، ومنه استمرت البرتغال في بعثاتها الاستكشافية إلى شواطئ أفريقيا الغربية، لتكون أول دولة استعمارية تصل تلك المناطق وتفتح بذلك صفحة الاحتلال الحديث في أفريقيا.

استغلت مملكة البرتغال علوم الحضارة الإسلامية ومهاراتها في بناء السفن والملاحة ورسم الخرائط لتحقيق العديد من الإنجازات على مستوى الاكتشافات البحرية الجغرافية. واستطاعت رحلة بقيادة “بارتولوميو دياز” سنة 1488 اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح (جنوب أفريقيا حاليًّا).

وفي سنة 1498 وصل فاسكو دا غاما إلى الهند وفتح طريق تجارة التوابل الغنية ما جعل بلاده الأغنى أوربيًّا. وفي 1500 وصلت حملة بيدرو ألفاريز كابرال إلى اليابسة في أمريكا الجنوبية لتحتل البرتغال البرازيل، وتتحول من مملكة إلى إمبراطورية عظمى.

حكم السعديين في المغرب

كانت المغرب تحت حكم السعديين أو الزيدانيين وكانت لحركتهم الجهادية والسياسية في ذلك الوقت سمعة مرموقة في الداخل وهيبة في الخارج. وقد استهلّوا توطيد دعائم ملكهم بسلسلة من المعارك القوية في سوس ودرعة وشياظمة وحاحا، تارة ضد القبائل المتمردة وأخرى ضد البرتغاليين.

وتمكّنوا تحت قيادة الجد المؤسس عبد الرحمن الزيداني وولديه السلطانين الشجاعين أحمد الشيخ ومحمد الأعرج من تأسيس دولة استمرت من 1510 إلى 1659م.

فتنة أحيت آمال الاحتلال

ظل طموح احتلال المغرب أملًا لكل ملوك البرتغال، حتى جاء الإمبراطور سبستيان الأول (1554 ـ 1578) وكان شديد التعصب دينيًّا، فوجد الفرصة سانحة حين وقعت فتنة في البلاط المغربي عند وفاة السلطان عبد الله الغالب بالله عام 1574، فاستلم بعده ابنه محمد الثالث المشهور بالمتوكل، واستعان بإمبراطور البرتغال لتثبيت حكمه.

في المقابل توجَّه عمه الأمير عبد الملك -أخو السلطان الراحل- إلى مراد الثالث سلطان الدولة العثمانية طالبًا دعمه، فأمدّه العثمانيون بفرقة عسكرية من الجزائر خلع بها المتوكل وتولى العرش عام 1576.

وتوجه الملك المخلوع محمد الثالث إلى سبستيان الأول ومعه 6 آلاف جندي طالبًا دعمه، فوجدها الإمبراطور الشاب فرصته في احتلال المغرب.

جهز سبستيان الأول لغزو المغرب، وأعد أسطولًا من 500 سفينة و18 ألف جندي، وحرص على إضفاء الصبغة الصليبية على الحرب لينال دعم البابا. كما نال الدعم من إسبانيا وبعض الإمارات الإيطالية وفرسان ومرتزقة من أوربا خاصة من ألمانيا وهولندا.

وجعل على قيادة وسط الجيش القائد الإنجليزي توماس ستاكليو، الذي ذاع صيته بعد الانتصار على العثمانيين في موقعة ليبانتو الشهيرة عام 1571.

أحداث المعركة

نزل البرتغاليون في ميناء أصيلة في أقصى شمال غرب المغرب بالقرب من طنجة، ثم تحركوا جنوبًا ليلتقوا الملك المخلوع محمد الثالث ومعه 6 آلاف من جنوده، فاتحد الجيشان وتوجهوا جميعًا جنوبًا.

كان الملك عبد الملك السَّعدي مريضًا جدًّا ويعلم أنه على فراش الموت، لكنه أصرّ على قيادة الجيش بنفسه لدفع الحماس في قلوب المسلمين الذين توافدوا لدعمه من تونس والجزائر تحت قيادة عثمانية.

والتقى الجيشان عند مدينة القصر الكبير، وبدأت المعركة بقصف مدفعي متبادلٍ سقط فيه قائد الوسط توماس ستاكلي قتيلًا، مما تسبب في اهتزاز مركز الجيش البرتغالي، ورفع معنويات الجيش المسلم.

أحاطت فرق الخيالة المغربية والعثمانية بالجيش البرتغالي وبدأت أجنحة الصليبيين تتأثر كما تأثر وسط الجيش. استمرت المعركة 4 ساعات وكان النصر الإسلامي حاسمًا ودُمِّر الجيش البرتغالي ومعاونوه من التابعين لمحمد الثالث.

وقُتِلَ من الصليبيين 8 آلاف، وأُسر 15 ألف جندي، كما قُتِلَ ملك البرتغال الشاب سبستيان ويبدو أنه مات غريقًا (في نهر لوكوس) فلم يُعثر له على أثر بعد المعركة. وقُتِل أيضًا في المعركة معظم نبلاء البرتغال كما قُتِل الملك المخلوع محمد الثالث.

كذلك استشهد أثناء المعركة الملك عبد الملك السعدي نتيجة الجهد الكبير الذي بذله رغم مرضه الشديد، وتولى قيادة المغرب بعده أخوه السلطان أحمد السعدي المعروف بأحمد الذهبي؛ إذ كانت فترة حكمه للمغرب هي أزهى عصور السعديِّين.

نتائج وآثار

حققت المعركة التي يصفها المؤرخان عبد العزيز الفشتالي ومحمد الصغير الإفراني بـ”الغزوة الكبرى” غايات ونتائج لم يسبق أن حققتها معركة فوق تراب المغرب.

وقضت المعركة تمامًا على أحلام البرتغاليين بتوسيع أملاكهم في المغرب إذ قُتل كثير من الجيش البرتغالي في هذا الصدام، ثم مُحيت البرتغال من خريطة العالم مدة 60 سنة متصلة بعد أن احتلتها إسبانيا إلى عام 1640.

كما أعطت هذه المعركة هيبة كبيرة للمغرب، فشهد فترة من أزهى عصوره واستغل المغاربة مكانهم الاستراتيجي الممتاز في العودة للتأثير في السياسة العالمية. وأمِنَت الدولة العثمانية على حدودها الغربية، بل على حدودها الجنوبية كذلك في اليمن وإرتريا؛ إذ لم تعد لدى البرتغاليين قوة لحرب العثمانيين في المحيط الهندي.

عقدة سبستيان

كان للمعركة آثارها النفسية إلى درجة أن الشعب البرتغالي ظلَّ فترة يظنُّ أن الملك سبستيان سوف يعود لينتقم، وأنه لم يُقْتَل في المعركة، وإنما رُفِعَ وسيرجع وكَتب الأدباء البرتغاليون قصصا في هذا الصدد.

وانتشرت الأسطورة في البرتغال ومستعمراتها، وهي حالة صارت تُعْرَف في التاريخ البرتغالي بالسبستيانيَّة Sebastianism، وعُرفت أيضًا في التاريخ البرازيلي لكون البرازيل كانت محتلة من البرتغال، وهو ما يوضح مكانة المعركة في التاريخ.

المصدر : الجزيرة مباشر