نكون كما يريد الواقع.. أم يكون الواقع كما نريد؟

حافظ رفيق فارس

نكون كما يريد الواقع أم يكون الواقع كما نريد، مقولة طالعتها فوجدت نفسي مضطرًا إلى الوقوف عند معاني شطرَيها، متأملًا مفرداتها المنتجة لمعادلة ذات تناقضين سلوكيَّين، قد لا يكون لأحد سبيل سوى الاختيار الاضطراري لأحدهما. فلو اختار هذا الأحد ترك نفسه تحت تصرّف ما يريده الواقع المتورم بحب الأنا المُنتَجة في معاطن الانتهازية، فهنا عليه إعادة برمجة فطرته التي فطره الله عليها وإكراهها على دفع استحقاقات الترك من مخزون العزة والإيثار المودوع في سجيته، وطالما أنه يريد أن تُفتح له أبواب الانتهازية التي يرى فيها طريق الوصول إلى ما يبتغيه، فعليه الرزوح تحت خط الانحدار، والتحرر من مكارم الأخلاق ومن اعتبارات الفهم والنقاش، مع التحرك في ميدان العمل باعتباره مطيةً مذعنًا، يرى في كل غيره بعضًا يُلغى ويُحذف وبعضًا يُنتج به خطوط إمداد لأطماعه، يُقاتل ويزاحم ويُقصي ليتقدم الصفوف وقت المغانم، ووقت المغارم يتلحف بالجبن ويتقهقر إلى حيث التواري والاحتجاب. وكلما أظهر تمّيزًا في الرضا بالدنيّة في نفسه، وإبداعًا في إجادة فنون الانتهازية، علت رتبته وارتفعت مقاماته فوق غيره درجات.

الانتهازيون

تجنّب المبالغة في وصف الواقع يفرض علينا الوقوف عند حقيقة أن الانتهازية ليست سائدة، والانتهازيين ليسوا كثرًا، غير أنهم أُولو قوة وتأثير على ذوي الأنفس الهشة، كما يجب تثبيت حقيقة أن كل المغانم الدنيوية التي يُعتقد أنها تُحصد بالانتهازية تفقد قدرتها على إغواء وإغراء أُولي العزة والشمم، الذين يبتعدون كل البعد عن مسالك الانتهازية وينطلقون بثبات نحو ترجمة طموحاتهم إلى نجاحات يتنعمون بمكاسبها وسط دعم وتشجيع من يرون فيهم أهلًا لهذا التنعم، هم الذين أخذوا بالأسباب الحقيقية للنجاح فبلغوه، وهم ذوو إيمان صادق، وفطرة سليمة زاهدة في ضبط إيقاع ظاهرها وباطنها بما ينسجم مع قواعد الانتهازية. وهناك حقيقة أخرى يجب تثبيتها، فالانتهازي وإن ارتفعت درجاته سيهوي إلى الانخفاض المتناسب مع صغر حجمه.

البداية

نحن نؤمن بأن إصلاح أي واقع تُنتجه الانتهازية لا يُنتزع بصمت، ولن تصنعه استكانة، بل يستدعيه ويستعجله رفض كل ممارسة وسلوك يعطي انتهازيتهم قوة تعزز خطأ اعتبارها عند ضعيفي الإيمان سبيل الوصول إلى الغايات. وهذه هي البداية في طريق إصلاح الواقع المحتاج أيضًا إلى تأكيد حقيقة أن الانتهازية مُستنبَتة من سلالة النفاق القادح في الإيمان، هذا الإيمان الذي يبقى حبيس التآكل حتى ينعم المنتهز بالتعافي والاستشفاء من هذا الداء. كما أن أبجديات إصلاح الواقع تفرض علينا تعزيز النظرة السلبية للانتهازية بتسفيه الانتهازي وتحييده، واعتباره أخطر المتورطين في إفساد حياتنا وتحويلها إلى متجر لشراء الذمم وبيع القيم. وليكن راسخًا في قلوبنا وعقولنا وكل جوارحنا أن الانتهازي لا يسكنه ضمير ولا تقربه نخوة، فهو الذي لا يتورع عن قتل القيم بغريزة، وطعن الوطن بشهوة، ثم يزعم كل الزعم أنه يُحسن صُنعًا!