لماذا يموت الأطباء في مصر؟

عضو مجلس نقابة الأطباء المصرية سابقا, منى مينا

في البداية كنت أشعر بالحزن والأسى عليهم وعلى أبنائهم وأسرهم ،وكنت أقول بيني وبين نفسي إن هذا هو الثمن الذي يدفعه الأطباء وغيرهم من الأطقم الطبية بسبب تصديهم لهذا الوباء .

اعتدت  منذ خروجي من مصر قبل ما يقرب من الأربعة سنوات،  أن أول شئ اطالعه  عند استيقاظي  في الصباح؛ هي شاشة هاتفي المحمول للوقوف على أخر الأخبار والاحداث الإقليمية والعالمية وفي مقدمتها ما يحدث في مصر خلال ساعات نومي القليلة .
 ومنذ بدأت أزمة وباء الكورونا يحمل لنا الخبر الرئيسي المنتشر على  صفحات وسائل التواصل الاجتماعي كل صباح هو سقوط ضحية جديدة من ضحايا الكورونا خاصة من الأطباء العاملين في مصر.
 نعي هؤلاء وكلمات التعازي التي تغرق  صفحات زملائهم وأصدقائهم الذين أتشرف بصداقتهم على صفحتي الشخصية عبر الفيس بوك ،وهذا الخبر هو ما يؤثر على حالتي المزاجية لباقي اليوم.
في البداية كنت أشعر بالحزن والأسى عليهم وعلى أبنائهم وأسرهم ،وكنت أقول بيني وبين نفسي أن هذا هو الثمن الذي يدفعه الأطباء وغيرهم من الأطقم الطبية بسبب  تصديهم لهذا الوباء خلال تقدمهم الصفوف الأمامية
وهذا تقريبا ماحدث ويحدث في كل دول العالم تقريباً، ومع توالي الأيام والأحداث بدأت أشعر بالدهشة أكثر من الحزن لأن أعداد الأطباء الذين يسقطون ضحايا الوباء أكثر بكثير من النسب العالمية لضحايا الأطباء والأطقم الطبية في دول أخرى هاجمها الوباء بشراسة، وفشلت أنظمتها الصحية في مكافحة المرض واستيعاب أعداد المصابين، حتى سقط  عدد منهم في البيوت وفي الشوارع وأمام المستشفيات …
في الأيام الأخيرة لم تعد الدهشة هي الإحساس المسيطر علي، عند قراءة خبر عن سقوط ضحية جديدة من الأطباء بل أصبح الغضب والرغبة في معرفة أسباب هذا التساقط المتوالي للأطباء وغيرهم من الأطقم الطبية بهذا الشكل محل تساؤل وبحث عن إجابات .

كنت أشعر بالحزن والأسى عليهم وعلى أبنائهم وأسرهم ،وكنت أقول بيني وبين نفسي أن هذا هو الثمن الذي يدفعه الأطباء وغيرهم من الأطقم الطبية جراء تصديهم لهذا الوباء

في إيطاليا على سبيل المثال، التي سقطت في إختبار الكورونا بشهادة العالم كله وبشهادة مسئولي الدولة أنفسهم بعدما سقط ما يزيد على  ٣٥ ألف  من المواطنين الإيطاليين، بينما  لم تتخط حالات الوفيات بين الأطقم الطبية ٠,٤٪ من إجمالي أعداد الوفيات …

وفي أسبانيا وإنجلترا اللتين اقتربتا  من أرقام إيطاليا في أعداد الوفيات،  نجد أن نسبة الوفيات بين الأطقم الطبية أقل من النسبة الإيطالية بكثير،  بينما في مصر بلغت وفيات الأطقم الطبية حوالي ٦٪ من إجمالي حالات الوفيات حتى الآن، ونحن لم نصل للذروة بعد وفق تصريحات المسئولين بالحكومة .
عندما تجد معضلة مثل هذه  فلديك إحدى إجابتين … أما الأولى فهي  الإجابة السهلة أن تلقي باللوم على الحكومة المصرية وتتهمها بعدم توفير الحماية الكافية للأطباء من وسائل الوقاية الشخصية اللازمة وعدم تدريب الأطباء عليها وعدم وجود إستراتيجية وبروتوكولات واضحة للتعامل مع المصابين والمرضى …
أما الإجابة الثانية وهي الأصعب قليلا، هي أن تبحث وفق المحيطات المتاحة عن إجابة والوقوف على الأسباب الحقيقية لهذه المعضلة.
فعندما بدأت هذه الأزمة في البلد الذي أعيش وأعمل في إحدى مستشفياته وهي المملكة المتحدة ( إنجلترا ) كنت في إجازة مرضية نتيجة عملية جراحية طارئة اضطررت للخضوع لها … وبعد شهر من النقاهة وعند عودتي إلى العمل ذهبت إلى رئيس القسم الذي أعمل به لأخبره بعودتي للعمل …
 بعد الترحيب المعتاد أستوقفني رئيس القسم الإنجليزي، وأمرني بالتوجه إلى قسم السلامة المهنية بالمستشفى قبل النظر في أي حالة بالمستشفى …
 وعندما توجهت إلي هذا القسم بدأوا في توجيه بعض الأسئلة الطبية للاطمئنان على صحتى ثم طلبوا مني الجلوس أما شاشة الكمبيوتر لمدة ساعتين لمناظرة محاضرات وفيديوهات غن كيفية التعامل مع مصابي الكورونا وكيفية حماية نفسي أثناء التعامل معهم …
بعد ذلك وجهوني للذهاب إلى غرفة معمل الملابس ووسائل الوقاية الشخصية ؛ وفي هذا المعمل بدأت المقابلة بسؤالي عن نوعية تخصصي وإذا ما كنت أقوم بأجراء للعمليات الجراحية للمرضى أم لا، وعندما أجبتهم بنعم!  طلبوا مني العودة إلى منزلي لحلاقة ”ذقني“ كاملا ثم العودة إلى ذلك المعمل …
ونظرا لغرابة الطلب ولإحساس العشرة الشديدة بيني وبين ذقني منذ مايربو على ١٢ عاما استنكرت هذا الطلب ورفضت تنفيذه …
عندها جلس معي أحد العاملين في المعمل، وشرح لي أن السلطات الصحية في إنجلترا، قد أوصت بتوصيات ملزمة للعاملين في القطاع الصحي البريطاني بخصوص وسائل الحماية الشخصية  … وأن من بين هذه التوصيات أن كل من يعمل في أماكن معرضة تعرضا مباشرا للرذاذ الذي قد يحمل فيروسات الكورونا كغرف العمليات الجراحية والرعايات المركزة والحضانات يجب عليه أن يرتدي نوعا مميزا من الكمامات التي تلتصق بالوجه بشكل كامل وتمنع أي تسرب للفيروسات إلى الفم والأنف …
هذه الكمامات يطلق عليها (FFP3)، وهذه الكمامات تتطلب أن يكون الشخص حليق الذقن تماما بدون وجود أي شعر في وجهه وتتطلب أيضا إختبار خاص للقياس والاطمئنان، أن هذه الكمامات مناسبة لهذا الشخص، ولايمكن للفيروسات أن تتسرب من جنباتها ويسمى هذا الاختبار ب FIT TEST هذا بخلاف أغطية الوجة الكاملة و الجاونات ذات الطبقات المتعددة وغيرها …
كما وجدت هذه السلطات من خلال أبحاث قاموا بها أن الماسك الجراحي العادي الذي نقوم بارتدائه في العمليات الجراحية المعتادة والذي لايوفر تقريبا أي حماية للجراحين أثناء إجراء العمليات الجراحية …
بالطبع اضطررت للانصياع لهذه التوصيات وتوديع شعيرات لحيتي

 

 السواد الأعظم من الأطباء يؤكد  على توافر  المستلزمات الطبية  رغم شكوى بعضهم من بعض النقص فيها واضطرارهم لشراء بعضها على نفقتهم الشخصية

 العزيزة بعد ما مررنا به معا  من أحداث ومغامرات في الـ ١٢عاما الأخيرة.
في المقابل نجد أن جميع التصريحات التي صرح بها مسؤولو وزارة الصحة المصرية ومن ضمنهم وزيرة الصحة، أكدوا على توافر جميع مستلزمات الحماية الشخصية للأطقم الطبية … والحقيقة أنه عند سؤال معظم الأطباء في المستشفيات المصرية ،يؤكد السواد الأعظم منهم على توافر هذه المستلزمات رغم شكوى بعضهم من بعض النقص فيها واضطرارهم لشراء بعضها على نفقتهم الشخصية …
 لكن عند سؤال نفس هؤلاء الأطباء عن نوعية المستلزمات المستخدمة، تجد أن الغالبية العظمى منهم يتحدث عن المستلزمات العادية كالماسكات الجراحية العادية ،والجاونات ذات الاستعمال لمرة واحدة …
 ولم يسمع أي منهم أو يعرف عن تلك المستلزمات الكاملة ذات المواصفات الخاصة كماسك الـ FFP3 أو الجاونات ذات الطبقات المتعددة او غطاء وجه الكامل، والتي تضمن عدم تسرب الفيروسات في الأماكن الأكثر عرضة للرذاذ المنبعث من المرضى، كغرف العمليات أو الرعايات المركزة.
ما استنتجته من البحث والتقصي أن وزارة الصحة المصرية تهتم بالكم على حساب الكيف … بمعنى أنها قد توفر كمية كبيرة من المستلزمات بدون الاهتمام بنوعية هذه المستلزمات، وهل هي كافية للحماية الكاملة للأطباء في أماكن عملهم …
وهذا الاستنتاج قد يفسر سقوط العديد من الأطباء ذوي التخصصات الجراحية، كأطباء النساء والجراحة والمسالك ضحايا للكورونا؛رغم أن من المفترض عدم وجودهم  في الصفوف الأمامية المتعاملة مع المرضى المصابين …
حيث بلغ عدد هؤلاء الأطباء نحو١٨ طبيبا أي حوالي ٤٠٪ من إجمالى ٣٩ طبيبا توفوا أخيرا من جراء إصابتهم بالكورونا …
وهذه النسبة تعتبر مرتفعة بشكل قياسي عن مثيلاتها في الدول الأخرى والتي لم تتعدى ال ١٠٪ من إجمالي الأطباء المتوفين في تخصصات اخرى على إتصال مباشر بالمرضى المصابين بشكل أكبر كأطباء الطوارئ والأطفال والباطنة … وأنه من الممكن عن طريق الاهتمام بنوعية المستلزمات المستخدمة… نتفادي سقوط المزيد من  الأطباء في التخصصات الجراحية والتخدير والرعايات المركزة وبالتالي تقليل أعداد الضحايا من الأطباء عموماً.
بالطبع هناك عوامل أخرى كثيرة يجب البحث والتحري فيها قد تكون ساهمت في إرتفاع هذه النسبة كأرتفاع أعمار بعض الأطباء الذين يعملون في مستشفيات العزل رغم إنه من المفترض حماية تلك الفئات من الأطباء ذوي الأعمار المرتفعة او المصابين بامراض مزمنة … وكذلك عدم عمل مسحات كافية للعاملين والمرضى مما قد يتسبب في إجراء الجراحات لمرضى لانعلم إن كانوا مصابين بالفيروس ام لا، وكل هذا قد يؤدي الى إرتفاع المصابين وبالتالي المتوفين من الأطباء نتيجة تعرضهم لكثافة مرتفعة من فيروسات الكورونا أثناء إجرائهم لتلك الجراحات او غيرها من الإجراءات الجراحية.
الغريب أنه على الرغم من أن العالم كله يتحدث عن هذا الوباء منذ بداية هذا العام أي منذ حوالي ٥ اأشهر تقريبا … وأن المسئولين في مصر يقومون بطمأنة المواطنين منذ بدية شهر فبراير/ شباط تقريباً حتى أن وزيرة الصحة قامت شخصيا بزيارات للصين وإيطاليا ومنحهم الكثير من المساعدات الطبية لإثبات أن الوضع في مصر مطمئن إلى أقصى حد، وأن لدينا فائضا من هذه المستلزمات، إلا أن الحكومة المصرية لم تتخذ أي إجراءات ايجابية لزيادة إنتاجية المستلزمات سواء تلك العادية منها او تلك المتميزة ذات الكفاءة العالية لصالح حماية المواطنين والأطقم الطبية
وكذلك لم تتخذ الحكومة اي خطوات نحو تصنيع كواشف للفيروس محليا رغم وجود البنية التحتية والخبرات اللازمة للتصنيع وأن هناك العديد من المصانع المصرية التي كانت ولازالت تقوم بتصدير منتجاتها من المستلزمات الى العديد من دول العالم ورغم إعلان رئيس الجمهورية عن تخصيص ١٠٠ مليار جنيه مصري لمكافحة الوباء ورغم الحصول على العديد من القروض الدولية لمساعدة مصر على تخطي الأزمة …
 وكان يمكن بالقليل من هذه المليارات دعم تلك المصانع او إنشاء مصانع أخرى لزيادة إنتاجية المستلزمات وتصنيع الكواشف وهو ماكان بدوره سيساعد مصر على الخروج من هذه الأزمة المستعصية بأقل الخسائر الممكنة.
في النهاية ربما أكون محقا في هذا الاستنتاج أو مخطئا ولكن مما لاشك فيه أن الاهتمام بالتفاصيل حتى الصغيرة منها أثناء هذا الوباء قد يكون له مردود إيجابي كبير في إنقاذ العديد من أرواح العاملين في الأطقم الطبية وبالتالي إنقاذ ارواح من سيعالجون من المرضى في ظل هذا الوباء الذي لانعلم حقيقته حتى الآن ولايعلم مداه ونهايته إلا الله عز وجل وعلى.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها