حارس الأقصى الأخير

وقد مرت الأيام والسنون ومات جميع رفاقي ولازلت هنا وحدي انتظ عودة جيش الخلافة لتحرير المسجد الأقصى، هكذا كان حديثه لي، وبعد أن انتهى من كلامه احتضنته وقبلته

بعد أن عبر مضيق البسفور إذ به ينتفض فجأة ويصرخ وهو يشير بأصبعه ويقول رأيته هناك، رأيته هناك، فنظر الحفيد إلى ما يشير إليه جده فإذا هو مجسم للمسجد الأقصى، فتعجب وأخذ يهدأ من روع جده الذي انسالت الدموع من عينيه وتهدج صوته وارتعدت فرائصه وهو يقول له ماذا جرى يا جدي، وبعد أن هدأ الجد قليلا ذهب نحو المجسم وقال يا بني أعادني هذا المجسم إلى ما قبل ٣٢ عاما وبدأ يروي الحكاية لحفيده.

في عام ١٩٧٢ كنت اعمل بالصحافة وقد قام بعض رجال الأعمال والسياسة الأتراك بزيارة إلى القدس المحتلة وكانت مهمتي أن ارافق هذه البعثة للتغطية الصحفية،  وقد استغرقت الزيارة أربعة أيام زرنا خلالها الجانب الفلسطيني والإسرائيلي وفي اليوم الرابع والأخير، نظم لنا المسؤولون رحلة لزيارة بعض المناطق التاريخية والدينية، وكنت حينها متلهفاً لزيارة المسجد الأقصى، وبالفعل دخلت الأقصى وكنت متأثراً تملكتني فرحة غامرة لدخولي له أول مرة وحزنا شديدا لضياعه من أيدينا، وعندما صوبت كاميرتي لألتقط بعض الصور لفت نظري في إحدى زوايا الفناء، رجل يقف تحت لهيب الشمس سنه فوق التسعين يرتدي بزة عسكرية رُقعت أكثر من مرة، فسألت المرشد المرافق لنا من هذا الرجل العجيب، فأجابني هذا الرجل منذ زمن بعيد وهو يقف في نفس المكان من الصباح حتى المساء ولا يتكلم مع أحد، أظنه مجنونا، فدفعني فضولي كصحفي أن اقترب منه وأتحدث إليه، وبالفعل دنوت منه وألقيت عليه السلام وإذا بالمفاجأة التي نزلت على رأسي كالصاعقة، رد علي السلام باللغة التركية، ارتعدت من داخلي إنه تركي، تركي ماذا يفعل هذا الرجل هنا وما الذي جاء به من الأناضول إلى هذه البلاد اليتيمة البعيدة، فاقتربت منه أكثر وأكثر وقلت له يا عماه من أنت وماذا تفعل هنا، فأجابني بصوت يفوق جسده المتهالك

يا بني أنا العريف ” حسن الأغدرلي ” قائد مجموعة الرشاش الحادية عشرة السرية الثامنة الكتيبة السادسة والثلاثين من الفرقة العشرين من الجيش العثماني وقد تعرضنا لهجوم من الإنجليز في الحرب العالمية عند منطقة قناة السويس وتشتت جيش الخلافة العظيم وتقطعت أوصاله نتيجة الضربات التي وجهت له من كل مكان وانتهى الأمر بهزيمتنا، واحتل الإنجليز القدس، ولم يتبقَ فيها سوى الوحدة الخاصة بنا، ولم يسمح الإنجليز لأحد غيرنا من جيش الخلافة بالبقاء في القدس لحراسة المسجد الأقصى وكنا ثلاثة وخمسين رجلا فقط وقد أمرنا قائدنا ألا نترك أماكننا حتى يعود الأقصى لدولة الخلافة من جديد.

وقد مرت الأيام والسنون ومات جميع رفاقي ولازلت هنا وحدي انتظر عودة جيش الخلافة لتحرير المسجد الأقصى، هكذا كان حديثه لي، وبعد أن انتهى من كلامه احتضنته وقبلته ثم ودعته وطلبت من المرشد الذي كان يرافقني أن يبعث لي بأخباره باستمرار، وعدت إلى إسطنبول والعريف حسن لا يفارق عقلي ووجداني وما هي إلا أيام وجاءتني رسالة من المرشد الذي طلبت منه أن يراسلني بأخبار العريف حسن، وكان محتوى الرسالة “مات آخر جندي عثماني يحرس الأقصى”.

هذه يا بني قصة العريف حسن الأغدرلي، آخر حراس المسجد الأقصى من جيش الخلافة، كما رواها الصحفي التركي “إلهان برودكجي”، وقد وردت هذه القصة في أكثر من مصدر أبرزهم كتاب ”عبرات العثمانيين بطولات وتضحيات”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها