ماكينات الساحرة المستديرة

 كلما قرأت وتابعت الحديث المستمر عن التجربة الألمانية في عالم كرة القدم شعرت بالخزي الشديد مما يحدث في عالمنا العربي من اختراعات وابتكارات ساذجة في مجال كرة القدم الغرض منها إما التقليد الأعمى دون النظر لكيفية التطبيق أو التشبث بمناصب لاطائل منها سوى الشهرة والتلميع الاعلامي.
فكم من بطولة خسرناها ، وكم من مباريات انتهت بكوارث ، وكم من أموال أٌنفقت والنتيجة دائماً هي خيبة الأمل الكبيرة إلا في بعض الحالات النادرة بفضل دعاء الوالدين كما يقال.

العشرين من يونيو عام 2000 تاريخ لن ينساه الألمان فيومها خسر المنتخب الألماني من نظيره البرتغالي بثلاثية نظيفة ليخرج منتخب الماكينات من الدور الأول لبطولة يورو 2000  بعدما حصل على نقطة يتيمة احتل بها المركز الأخير في المجموعة.

يومها اكتشف الألمان أن تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم أصبح في مهب الريح ، فالمنتخب الألماني الحائزعلى ثلاث بطولات لكأس العالم ومثلها لبطولة الأمم الأوربية أصبح منتخباً عجوزا يقوده أوليفر كان وبيرهوف وتوماس هاسلر ولوثر ماتيوس ويانز ليمان وكلهم أسماء كان لها بريقها في الماضي لكنهم الآن فقدوا هذا البريق فلم يعد لديهم ما يقدموه .
أراكم تتذكرون الآن ما يحدث في عالمنا العربي وكيف نتصرف عند الهزائم والخروج من البطولات لكن تابعوا معي ماذا فعل الألمان عقب هذه الانتكاسة التي ألمت بفريقهم علنا نتعلم في عالمنا العربي .

غيرهارد ماير فورفيلدر .. قائد ثورة التصحيح

غيرهارد ماير فورفيلدر هو رئيس الاتحاد الألماني لكرة القدم وقتها ولم يفعل كما يفعل البعض بدفن رأسه في الرمال أو يتخذ موقفا أكثر شجاعة فيتقدم باستقالته ويترك منصبه بل على العكس تماماً قرر فورفيلدر ثورة التصحيح بنفسه ليكتب مستقبلا مشرقا للألمان يجنون الآن ثماره بعد مرور 17 عاما حيث يعتبر فورفيلدر الآن الأب الروحي للكرة الألمانية .

عقب الخروج المهين من بطولة يورو 2000 قرر فورفيلدر إحداث تغيير جذري في الكرة الألمانية  حيث اجتمع مع ممثلي كل الأندية الألمانية المحترفة وكان عددهم 36 نادياً ، وتم اجبار هذه الأندية على إنشاء أكاديميات متخصصة لكرة القدم تهتم بالبراعم والناشئين وتطور مواهبهم وترعاهم وتنمي قدراتهم.

وبالفعل تم إنشاء 36 أكاديمية لرعاية المواهب ولم يقف عند هذا الحد بل قام بعقد العديد من الاجتماعات مع ممثلي الإعلام والهيئات الاستثمارية من أجل توفير الدعم اللازم لتلك الأكاديميات وقام أيضاً باتخاذ العديد من الإجراءات التي تضمن نجاح تلك الأكاديميات واستقدام كبار المدربين وأساتذة كرة القدم والمحللين وفق أنظمة علمية حديثة.

الأندية الألمانية اتبعت الأسلوب العلمي في إدارة هذه الأكاديميات فقامت بإسنادها إلى لاعبين سابقين خضعوا لبرامج و دورات تأهيلية في الإدارة مما شكلَ بجانب خبرتهم الكروية ثقافة جديدة بالتعامل مع اللاعبين وضمان استمرار نجاح تلك الأكاديميات.

كانت هذه الفترة هي نقطة الفصل وسأتناول هنا معلومتين  :

المعلومة الأولى أنه قديماً وعندما كان يتم الحديث عن مواهب كرة القدم فإن أول ما كان يخطر ببالنا هو البرازيل والأرجنتين وفرنسا وهولندا ولم نكن أبداً لنعتقد أن ألمانيا من الممكن أن تمتلك يوماً ما موهبة صاعدة في كرة القدم.

المعلومة الثانية أن اسلوب اللعب الألماني على مر التاريخ كان يعتمد على القوة البدنية العالية واللياقة الجبارة والطول الفارع  أما الآن فأسلوب اللعب تغير تماماً وأصبحنا نرى كل الابداعات من الألمان وتغير أسلوب اللعب الى اللعب المنظم السريع دقيق التمريرات.

الأكاديميات الألمانية تؤتي أُكلها

أولى ثمار هذه الأكاديميات كان تخفيض معدل أعمار لاعبي البوندزليغا (الدوري الألماني) فبعدما كان معدل أعمار اللاعبين عام 2000 يزيد عن 27 عاما أصبح في عام 2015 فقط 25 عاما والفضل الوحيد في ذلك يرجع للأكاديميات التي تم إنفاق ما يزيد عن مليار يورو لنشأتها وتطويرها منذ عام 2000.

البعض قد يرى أن هذا المبلغ كبيرا نسبيا ولكن إذا نظرنا إلى المكاسب التي جنتها ألمانيا بفضل هذا الأكاديميات سيكون المبلغ قليلا جدا ، بل ما يحزنك أن أضعاف هذا المبلغ نصرفها في عالمنا العربي على أنصاف لاعبين وأشباه مدربين والحصيلة النهائية دوريات ضعيفة فنيا ومنتخبات أقصى طموح لها الصعود لكأس العالم.

التجرية الألمانية انتقلت بعد ذلك للعديد من دول العالم التي قررت السير على نفس النهج وكان أخر هذه الدول البرازيل التي قررت في عام 2015 أن تدرس نوذج الأكاديميات الألمانية تمهيدا لتطبيقه في أنديتها .

نعود مجددا إلى ثمار التجربة الألمانية فيكفي أن تعلم أن أكثر من 55% من لاعبي البوندزليغا الآن من خريجي هذه الأكاديميات ، كذلك خرَجت هذه الأكاديميات مواهب عديدة ونجوم كبار على مستوى العالم أمثال مولر وأوزيل وماريو غوتزه وتوني كروس وماتس هوميلز ودراكسلر والابا ونوير وتير شتيجن وبودولسكي وشفانشتايجر وماركو ريوس وسامي خضيرة ولارس بيندر وغيرهم الكثير تخرجوا من هذه الأكاديميات ؟

الوضع الآن تغير وأصبح من النادر للغاية إن لم يكن من المستحيل أن نشاهد مباراة في البوندزليغا تخلو من موهبة من خريجي تلك الأكاديميات الألمانية بل غزت المواهب كل الدوريات الكبرى وأثبتت جدارتها تماماً.

المنتخب الألماني يجني ثمار التجربة
رأينا النتيجة على مستوى اللاعبين ولكن هل تغيرت النتائج على مستوى المنتخب الألماني ؟
بعد 10 سنوات من العمل الشاق في تلك الأكاديميات أخيراً وفي كأس العالم 2010 ظهرت أول ثمرة على مستوى المنتخبات وحصد المنتخب الألماني المركز الثالث في تلك النسخة التي أقيمت في جنوب أفريقيا حيث قدموا أداء قويا في هذه البطولة ثم بعدها بأربع سنوات فقط في النسخة التي تلتها تمكنوا من إحراز لقب كأس العالم على حساب المنتخب الأرجنتيني في البطولة التي أقيمت على الأراضى البرازيلية.

الآن أصبحت الفرق الألمانية هى المرشح الأقوى والأبرز لأى بطولة تشارك بها وخير مثال على ذلك نادي بايرن ميونخ المرشح الأبرز لإحراز لقب بطولة دوري أبطال أوربا هذا العام كما أنه النادي الوحيد تقريبا الذي يعتبر ندا قويا وخصما عنيدا لبرشلونة وريال مدريد .

إذًا لقب الماكينات الألمانية لم يأت من فراغ بل أتى من التصميم والدقة والنظام والإصرار على النجاح ، أتمنى أن يطلع أي مسؤول رياضي عربي على هذه التجربة ويبدأ في تطبيقها حتى نتمكن من مواكبة هذه الدول والعرب يملكون المواهب الرياضية والمعادلة سهلة وبسيطة لكن يبقى السؤال :

من يجرؤ على دخول غرفة العمليات وإجراء الجراحة اللازمة لمريض طال انتظار شفائه؟

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها