أوروبا لليمين در: “ميثاق الهجرة الجديد” هل ينجح في مواجهة أوهام “غزو وشيك”؟

منازل كانت مخصصة لطالبي اللجوء في بريطانيا تم بيعها للقطاع الخاص (غيتي)

“صاحت فجأة جنديّةٌ: هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟ قلت: قَتَلْتني… ونسيتُ، مثلك، أن أَموت”.

تتجسّد كلمات الشاعر الكبير محمود درويش السابقة، فيما يمكن أن يُسمّى زحف اللاجئين والمهاجرين المتواصل بلا توقف نحو الحرية والخلاص، على الرغم من كلّ محاولات محاصرتهم وتشديد قوانين الهجرة، دون معالجة الأسباب الحقيقية “للخروج”.

والمفارقة، أن الأنظمة الأوروبية بأغلبية برلماناتها، تعلن الحرب على “حق اللجوء”، وتدعم في ذات الوقت، حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة، وتتواطأ على حرب الجنرالات المنسية في السودان، وهو ما قد يؤدي إلى زحف عشرات الآلاف من اللاجئين.

وآخر حلقات هذه السياسة الكارثية، تصويت أعضاء البرلمان الأوروبي، الأربعاء الماضي، في بروكسل لصالح “ميثاق الهجرة واللجوء الجديد”، الذي يتضمن تعديلا واسعا لسياسة الهجرة الأوروبية، وقد وصفته المنظمات الحقوقية بأنه “مصمم لزيادة معاناة المهاجرين”.

وتتلخص محاور الميثاق الأساسية -الذي من المقرر العمل به بدءًا من عام 2026- في “فلترة” إلزامية للمهاجرين الواصلين إلى أراضي الاتحاد الأوروبي من خلال تسجيلهم في قاعدة بيانات مشتركة، واتخاذ “إجراء على الحدود” للمهاجرين الواصلين المرفوضين بعد دراسة سريعة لملفاتهم ووضعهم في مراكز مؤقتة ثم إعادتهم.

كما أوجب “التضامن” بين الدول الأعضاء في الاتحاد، بحيث يتم تخفيف العبء عن دول الوصول مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا، بإعادة توزيع المهاجرين، على أن تدفع الدولة، التي ترفض استقبالهم أموالا لهذه الدول لتتمكن من إبقائهم فيها، إذ إن بعض الدول مثل هنغاريا وبولندا، أصرت على عدم استقبال عدد محدد من المهاجرين.

وقد أُبقي بند إلزام البلد الذي وصل إليه المهاجر بتقديم اللجوء فيه، مع بعض التعديلات.

ومن الناحية السياسية، توافقت ثلاث جهات على دعم الاتفاق، وهي اليمين، والاشتراكيون والديمقراطيون، والوسطيون الليبراليون، في حين عارضه جزء كبير من اليمين المتطرف الذي يعتبر أنه غير كاف، وجزء من الخضر واليسار الراديكالي وبعض الاشتراكيين، كما نددت به 161 منظمة حقوقية، مبدية قلقها من “توقيف عائلات مع أطفالها” و”تجريم” المهاجرين، مشيرة إلى أن الاتفاق يسمح لأعضاء الاتحاد الأوروبي بسنّ تدابير استثنائية عند ارتفاع أعداد الوافدين.

مغازلة اليمين المتطرف

ويدفع صعود اليمين المتطرف، المعادي للمهاجرين، أحزاب اليمين والوسط الراغبة في سحب البساط الانتخابي منه، قبل أقل من شهرين من الانتخابات الأوروبية، إلى اتخاذ إجراءات متشددة جديدة لوقف الهجرة باعتبارها “غزوًا وشيكًا”، وتهديدًا “لحضارة الجنس الأبيض”، وهي الدعاية التي يرتكز عليها الفاشيون الجدد في أوروبا.

ووصل الأمر إلى أن تخرج وزيرة خارجية بريطانيا السابقة اليمينية المتشددة، سويلا بريفرمان، خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي معلنة رغبتها في تجاوز اتفاقية اللاجئين التي أصبحت “غير مواكبة لظروف العصر الراهن”.

وحددت اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين، التي تريد بريطانيا الانقلاب عليها، التعريف القانوني لمصطلح “لاجئ” وحقوق اللاجئين.

كما تقوم الأنظمة الأوروبية بتقليص نفقاتها على المهاجرين بشتى السبل؛ مما يعرض حياتهم للخطر، ووصل الأمر، حسب منظمات إغاثية، إلى التغاضي عن واجب إنقاذ اللاجئين من الغرق في مياه البحر المتوسط.

ورغم ذلك وخلال شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2024، شهدت أعداد الوافدين غير النظاميين من غرب إفريقيا ارتفاعا قياسيا على أساس سنوي بلغت نسبته 541%، مع توافد أكثر من 12 ألف مهاجر -أغلبهم من مالي والسنغال وموريتانيا- على جزر الكناري، وفق الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتيكس).

ولمواجهة التحديات المتزايدة التي تطرحها التحركات السكانية، أطلقت الوكالة الدولية للهجرة، في يناير/كانون الثاني، أول نداء سنوي عالمي لها، لجمع 7.9 مليارات دولار في 2024.

ويبدو الأمر كأحجية ليس لها حل، فلسان حال العديد من الحكومات الأوروبية يقول سنواجه فشلنا في منع الهجرة، ولكنها تتبع ذات السياسات التي تعمق هذا الفشل. وهو ما يعني إهدار المزيد من الوقت في المضي في الاتجاه الخاطئ.

وليت الأمر يقف عند خطيئة “إهدار الوقت” بل إن عشرات الألوف من المهاجرين الذين يريدون النجاة من أرض الخوف والفقر سعيًا وراء “فرصة بديلة”، يدفعون ثمن هذه السياسات “الكارثية”.

 فتش عن المصالح

وتلفت جريدة وول ستريت جورنال الأمريكية، الانتباه إلى أن من أهم أسباب تدفق اللاجئين دعم أوروبا للحكام المستبدين والمتورطين بالفساد في إفريقيا والمنطقة العربية؛ مما يحول دون وجود تنمية حقيقية في هذه المجتمعات، تكون دافعا لملايين الشباب للبقاء في بلادهم دون خوف من فقر أو حروب أو معتقلات.

وتضيف أن “الحكومات الغربية تدعم هذه الأنظمة، لأنها تعتقد أنها أفضل من يخدم مصالحها في المنطقة، أما مسألة قمعها لشعوبها فباتت مسألة ثانوية”.

وبحسب مراقبين، فقد وقع الاتحاد الأوروبي مذكرتي تفاهم مع تونس ومصر على الترتيب، رغم أن النظامين قطعا الطريق على تجربتين ديمقراطيتين، كانتا مصدر أمل وإلهام للملايين في المنطقة العربية.

وشمل اتفاق “الشراكة الاستراتيجية” مع تونس ومصر إلى جانب الحد من الهجرة غير المنظمة مجالات أخرى من بينها التنمية الاقتصادية والطاقة المتجددة. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إنها تريد أن تكون هذه الشراكة نموذجا لاتفاقيات مستقبلية مع دول المنطقة.

ومع أن مصر نجحت في كبح موجات الهجرة غير النظامية بشكل كبير منذ 2016، فإن نسبة المصريين الوافدين عبر سواحل ليبيا والواصلين إلى سواحل اليونان لا تزال في مستوى عال تحت وطأة الأزمة الاقتصادية.

والمصريون من بين الجنسيات الثلاث الأكثر تدفقا على السواحل الشرقية للاتحاد الأوروبي، إلى جانب الأفغان والسوريين، وفق فرونتيكس.

ويرى رمضان بن عمر، الناطق باسم “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، أن الاتفاق “رؤية أوروبية أحادية الجانب”. ويضيف لوسائل إعلام، أنه تم التوقيع على مذكرة التفاهم بين الطرفين في ظل ظروف “غير ديمقراطية”، مشيرًا إلى تدابير الرئيس قيس سعيد، الذي فرض قيودًا متزايدة على الحقوق والمؤسسات الديمقراطية.

ويؤكد أن ما يهم الأوروبيين في المقام الأول هو الحد من الهجرة غير النظامية، ويعتقد أن وجود برنامج دعم مكثف للاقتصاد التونسي في الاتفاق المقترح وُضع من أجل “أغراض تجميلية”.

دور الاستعمار القديم والجديد

ويحمّل خبراء أوروبا كذلك المسؤولية التاريخية عن تردي الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية والإفريقية، ولعل من أشهرهم البرفيسور الكيني أوتينو لومومبا أستاذ القانون ورئيس مؤسسة مكافحة الفساد.

ويرى لومومبا أن أهم محطة في الصراع بين القوى الاستعمارية على ثروات إفريقيا في القرن التاسع عشر تجسدت في مؤتمر برلين في فبراير/شباط 1885، الذي شهد تقسيم القارة.

وهكذا قسّم من لا يملك البلدان الإفريقية على المحتلين وحضرت مؤتمر النهب 14 دولة، وبناء على ذلك فقد سارعت الإمبراطوريات الأوروبية الاستعمارية إلى استباحة باقي مناطق القارة الإفريقية والتوغل في أعماقها الداخلية، وانتهت هذه المرحلة باحتلال إيطاليا الفاشية لليبيا عام 1911، واحتلال فرنسا للمغرب الأقصى عام 1912، وهكذا صارت سبع دول أوروبية وهي: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والبرتغال، وإسبانيا، وبلجيكا (مساحتها مجتمعة 734000 ميل مربع)، تستبيح 93% من إفريقيا (مساحتها 11300000 ميل مربع)، أي ما يعادل 15 ضعفًا لمساحة تلك الدول الأوروبية مجتمعة، ولم تبقَ في إفريقيا دولة مستقلة، باستثناء إثيوبيا.

وبعد أن حصلت الدول الإفريقية والعربية على استقلالها، واصلت أدوات النظام العالمي الجديد كصندوق النقد والبنك الدولي دورها في المزيد من إفقار الشعوب، وتكبيلها بدوامة الديون.

وهكذا ستتواصل الدائرة المفرغة، التي لن تؤدي إلا إلى تدفق أعداد هائلة من البشر، فهؤلاء الذين يعرضون أنفسهم للموت غرقًا يهربون إلى أوروبا من جحيم الأنظمة التي دعمتها أوروبا ورعتها في إفريقيا.

وفي هذا السياق تجادل منظمة سي ووتش الألمانية لإنقاذ المهاجرين في المتوسط على منصتها في إكس بأن تشديد الأنظمة الأوروبية لسياسات الهجرة ليس حلًّا مشيرة إلى أن “الانحناء للفاشيين، والحكم على المزيد بالموت غرقًا في مياه البحر الأبيض المتوسط، وتطبيع العنف على الحدود، وإلغاء حقوق أولئك الذين يتنقلون، لن ينهي المشكلة بل سيفاقمها!”.

المصدر : الجزيرة مباشر