هل أتاك حديث طلاب العالم؟!

لافتة في جامعة كولومبيا بالقرب من مخيم احتجاج في الحرم الجامعي الرئيسي لدعم الفلسطينيين (رويترز)

كرة ثلج تدحرجت ولم يعد من السهل تحجيمها أو منعها من التدحرج والانتقال لأمكنة أخرى ومضاعفة حجمها.

وقد بدأت باحتجاجات في جامعة واحدة لتنتقل لعشرات الجامعات الأمريكية، ومنها لجامعات أوروبية، فهل أتاك حديثها وهي تتحدى سياسات الأنظمة الكبرى لتثبت حقًا ظنوا أنه قد سقط بالتقادم، وحسبوا أن كمون المقاومة غروبًا لها ولقضيتها، وعقدوا المؤتمرات والمؤامرات وقسموا في مخيلاتهم الأرض والتاريخ وجهزوا لتهجير شعب عصي على الاستسلام فأسمع صوته للعالم ليتحرك الأحرار من الشعوب في شوارعهم والطلاب في جامعاتهم؟

هل أتاك حديث طلاب العالم حين فضحوا وكشفوا الوجه الحقيقي للغرب الذي طالما ادّعي الديمقراطية والحرية والشعارات التي ثبتت أكذوبتها والأخلاق التي صارت كالعهن المنفوش، وازدواجية المعايير الأمريكية تجاه القضايا الإنسانية والحقوقية فتدعم المحتل مقابل إهدار حياة عشرات الآلاف من الأبرياء، بل وتشارك في مجازر يندى لها جبين الإنسانية ولن يغفرها التاريخ لهذا الجيل؟

هل أتاك حديث الطلاب حين واجهوا بصدورهم انتهاكات الأمن لاعتقالهم وقد كانوا لا يعرفون معنى الاعتقال بسبب الرأي من قبل، فنظموا اعتصامات ونشروا بساحات الجامعات رغم القمع ليتضح لنا أن فكرة الإرهاب الفكري في بلادنا وفي بلادهم حاضرة إذا كان الحق يخص المسلمين ولا يخصهم؟ وأن ما رفعوه من شعارات لسنوات طويلة لتكون بلادهم حلم أبنائنا ظنًا منهم أنها الفردوس المفقود، فإذا بها غابات وحشية حين يتعلق الأمر بالمسلمين وحقوقهم ومقدساتهم كانت مجرد شعارات لا تساوي الحبر الذي كتبت به؟

هل أتاك حديث الطلاب حين كشفوا بشاعة الوجه الأمريكي وتحكم الصهاينة بقراره وتغلغله في مؤسساته حتى العلمية منها كجامعة عريقة مثل جامعة جورج واشنطن بالعاصمة الأمريكية؟

هل أتاك حديث طلاب أمريكا بعد اعتقال 500 طالب منهم على خلفية التظاهرات والاعتصامات الموسعة حين لم يرهبهم ذلك لتنتقل الفكرة للأهالي فتوافدوا على الجامعة دعمًا لأبنائهم ليتضاعف حجم التظاهرات فتنتقل شرارتها بصورة أكبر مما تخيل البعض، ولينضم إليهم الأساتذة ليحولوا بينهم وبين الأمن غير عابئين بالتعامل الأمني العنيف ليتحول المشهد لما يشبه الثورة على النظام ذي الوجهين؟

هل أتاك حديث الطلاب حين تفهم مطالبهم جميع القضاة الأمريكيين الذين عرضت عليهم قضاياهم فأمروا بإخلاء سبيلهم فورًا وإسقاط كافة تهم العنف والتعدي عنهم؟

هل أتاك حديث الطلاب حين انتقل المواجهة من أمريكا إلى كندا وأوروبا وينتظر العالم المزيد؟

ثم هل أتاك حديث طلاب الجامعات العربية إذ هم يترقبون الفرصة ولا يستطيعون مجرد الهتاف؟

الثورة الطلابية واهتزاز عرش الولايات المتحدة

لم تشهد أمريكا ولا الغرب مثل هذه الاحتجاجات من قبل وبهذا الحجم من أجل أي قضية إلا بعد طوفان الأقصى الذي مر عليه أكثر من مئتي يوم والذي بدأ بصورة معاكسة تمامًا على ما هو اليوم من دعم للعدو الصهيوني وتبن لرواية المحتل، وتعاطف العالم معه حتى تبدلت الصورة بعد اتضاح الحقائق وتكالب الأنظمة العالمية على فئة قليلة تقطن غزة الأبية تدافع عن حريتها وحقها المشروع في تحرير أراضيها المحتلة، وبعد متابعة العالم لشاشات الجزيرة بما يجري من بشاعة في عمليات إبادة غير مسبوقة على مرأى ومسمع من العالم الذي كان يسمى حرًا.

وتنتقل عدوى الاحتجاجات العالمية لتدخل الجامعات بعد أن صمَت تلك الأنظمة آذانها وتمادت في سكوتها على العدوان فثارت الشعوب الحرة ثم طلاب العالم الأحرار بعد أن تحركت عقلية “عربية” ديكتاتورية هاجرت إلى أمريكا وهي تحمل جينات الطغيان فتستدعي الشرطة الأمريكية ضد طلاب جامعتها لتوقد شرارة كان يمكن أن تتوقف عند تظاهرة ليوم واحد.

لكن بذور الطغيان تأبى إلا أن تستخدم العنف ظنًا منها أنها تقدم خدمة لمن عينوها، فإذا بها تحيل حياتهم رعبًا بسبب تصرفها الأرعن، وإذا بهم يستدعونها بالكونجرس ليطالبها نائب نيويورك بتقديم استقالتها لما سببته من فوضى ونشر لفكرة غضب لن تتوقف عند ما بدأت به في جامعة كولومبيا ورئيستها المصرية الأصل “نعمات شفيق“.

ولأن الثورات معدية فقد خرجت الأستاذة الكندية “نعومي كلين” الأستاذة بنفس الجامعة فرع كندا لتتقدم طلابها رافعة مطالب ما كانت لترفع في القارة الأمريكية صراحة قائلة “حان الوقت أن نتحرر من عبادة عجل الصهيونية”، لقد استشاط النظام الأمريكي غضبًا وخوفًا حين انفضح أمره ولم يستطع مواجهة تظاهرات طلابية سلمية إلا بالشرطة متشبهين في ذلك بأنظمة طالما وصفوها بأنها “قمعية متخلفة”، وحين فشل في احتواء الغضب المستفحل ساعة بعد ساعة، لقد هز الطلاب عرش أمريكا بمبادئها المجوفة، وهدد عرش زعامتها للعالم.

فضل المقاومة في إحياء القضية

وقد يحسب البعض أن الغضب الشعبي العالمي إنما هو نوع من التعاطف المبرر تجاه الحرب اللاإنسانية على أطفال غزة ونسائها وأبريائها، فلطالما تعرضت غزة لحروب إبادة لم تقل شراسة عما يدور اليوم، ربما كانت الحروب لأيام معدودة فتحصد أرواح عدة آلاف من الأبرياء أصحاب الأرض، وربما لم يتم اجتياحها بريًا في إحدى تلك الحروب، وربما لم تجتمع عليها أنظمة العالم في محاولة للقضاء على القضية برمتها مثلما حدث في طوفان الأقصى؟

وربما لم يحدث هذا الزخم العالمي من قبل حول الصراع الفلسطيني مع الكيان، وربما لم يحدث ذلك الفصام الكبير بين إرادة الأنظمة وإرادة شعوبها، إلا أن الاختلاف هذه المرة لا يرجع كما قد يظن البعض لوعي الشعوب فقط، أو للفارق الإعلامي الذي صنعته الجزيرة وحدها بنقلها للحدث بصوره المرعبة، وإنما يرجع الفضل فيه في المقام الأول وبالنسبة الأكبر لصمود المقاومة الأسطوري، وذكائها المنظم، وقوتها المفاجأة والمدهشة رغم تواضع الإمكانات المادية والحصار الخانق، والتعاطي القوي  لقادتها مع مستجدات الحدث كل يوم رغم شراسة المعارك.

ليس هذا فقط، بل إن صمود الفلسطينيين العزل أنفسهم بالرغم من فداحة الثمن المدفوع مقابل قضية عادلة قد ألهب مشاعر ملايين البشر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم وهوياتهم وثقافاتهم ليحضر في الصورة فقط “الإنسان من أجل الإنسان”، فتتبدل القناعات حين لم يعد أحد قادرًا على إخفاء حقيقة طالما أخفوها، لقد مرت عشرات السنوات لم يكن هناك سوى صوت واحد، ورواية واحدة، وحقيقة إعلامية واحدة،  لكن هذه المرة مثل صمود المقاومة وظهيرها الشعب الفلسطيني في غزة صوت أعلى من كافة الروايات التاريخية الزائفة فانتبهت شعوب العالم ، ثم انتفضت، ثم تخطت كافة أبعاد الصراع لتنتقل معارك أخرى في بلاد بعيدة، معارك ثورية بين شعوب الأرض وأفكار قديمة يجب أن تتوقف الآن.

إنني أتوقع أنه في غضون أسابيع على أقصى تقدير أن تتوقف تلك الحرب الوحشية على قطاع غزة، وأن تتم صفقات سريعة لتبادل أسرى هنا وهناك، وعلى يقين كذلك أن العالم قبل طوفان الأقصى ليس كما هو بعده، وأن الملايين التي تحركت زاحفة لتطالب بوقف الحرب لن يكون ذلك المطلب هو مطلبها الوحيد، وأنها لن تعود لبيوتها مكتفية بوقف آلة القتل وصوت الزنانة فوق رؤوس أطفال غزة، وإنما سوف تطال ما هو أبعد بكثير، وسوف نشهد جميعًا تغييرًا جذريًا في الخريطة السياسية العالمية وفي فترات وجيزة، وإن غدًا لناظره قريب.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر