ماذا يعني لإسرائيل إعلان ألمانيا ودول أخرى استئناف تمويل “الأونروا”؟

شاحنة تابعة لوكالة (الأونروا) تعبر إلى مصر عند معبر رفح، خلال هدنة مؤقتة بين حماس وإسرائيل، في رفح، مصر. 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 (رويترز)

منذ 74 عامًا يحرص الفلسطينيون اللاجئون على الاحتفاظ برمزين هامين هما، مفتاح قديم تآكله الصدأ لمنزل هُدم أو تم الاستيلاء عليه وبطاقة زرقاء صغيرة يطلق عليها “كرت المؤن” قد يبدوان للغرباء بلا أهمية ولكنهما أشبه بوطن يحمله اللاجىء معه في مخيمات الشتات، وتذكرة عودة مؤجلة لكل فلسطيني مهجر.

“كرت المؤن” الذي منحته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” لمن هُجروا من مدنهم وقراهم في فلسطين، جاء بعد تأسيسها بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، لتقديم المساعدة للاجئي فلسطين في الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة.

ولأن “الأونروا” تعد آخر ورقة يتشبث بها الفلسطينيون المهجرون سواء داخل وطنهم أو خارجه لإثبات وجودهم وحقهم في العودة، سعت أيادي الصهاينة لانتزاع هذه الورقة وتجفيفها، في حرب وجودية أشبه بحرب العصابات، لا سيما في الآونة الأخيرة، بعد الادعاء بضلوع عدد من العاملين في الوكالة بأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كذبة جديدة تتكشف وحرب أخرى تخسرها إسرائيل اليوم، إذ فشلت مجددًا في تجفيف منابع الدعم للوكالة وتأليب المجتمع العالمي ضدها واعترف مسؤولون إسرائيليون كبار وفقًا لصحيفة “هآرتس” العبرية، بفشل الحملة الإسرائيلية ضد التمويل الدولي للوكالة عقب صدور نتائج التقرير المحايد الذي أكد عدم وجود أدلة على المزاعم التي ادعتها دولة الاحتلال.

ولعل إعلان ألمانيا أحد الحلفاء الأقوياء لإسرائيل استئناف تمويل الأونروا، مثل صعقة صادمة للكيان الصهيوني، خاصة وأن المملكة المتحدة أيضًا أعلنت عن دراسة لتجديد التمويل ودول أخرى منها، السويد وكندا واليابان والاتحاد الأوروبي وفرنسا، مما يعني للكيان أن “الأونروا” مستمرة، وأن إسرائيل خسرت التأييد والدعم من العديد من الدول، وأن هذه الخسارة ستخلد حقوق الفلسطينيين في وطنهم، وستبقى “الأونروا” شوكة في حلق الصهاينة.

“كرت المؤن” إثبات لحق العودة

رمزية هذه البطاقة عند الفلسطينيين في أنها  دليل دامغ على أن لهم وطنًا وبيتًا لهم الحق في العودة إليه يومًا ما وإن طال اللجوء، أو ربما تعود عظامهم التي سيحملها الأحفاد، كما هي مفاتيح منازلهم المدمرة أو المسروقة في قرى ومدن هودت وطمست ملامحها العربية.

ولطالما شكل “كرت المؤن” إثبات وجود للاجئين الفلسطينيين أمام العالم، فمصطلح لاجىء وإن امتزج بالأسى لأحداث يصعب محوها من ذاكرة أجيال عاشت النكبة ومن ثم النكسة أو عاشها أباؤهم وأجدادهم، يُبقي نافذة الأمل مشرعة، أمل بأن هناك وطنًا ينتظر أصحابه مهما طُمست ملامحه وزُيفت أسماء قراه ومدنه على الخريطة.

وكما وجود الفلسطيني على أرضه يراه الصهاينة تهديد وجود، كذلك ينظر إلى هذه البطاقة الزرقاء بجزع وهلع، فهي ليست مجرد أوراق مصفوفة في دفتر صغير بل هي أشبه بجواز سفر أو هوية أو بصمة نسب تربط الفلسطيني بترابه، تعبر عن رحلة التهجير واللجوء الذي كان يفترض أن يكون مؤقتاً ولكنه استمر 74 عامًا.

هذه الدفاتر الصغيرة التي منحتها الأونروا للفلسطينيين الذين تم تهجيرهم قسرًا عام 1948 لتساعدهم على الاستمرار في البقاء في أماكن اللجوء والنزوح بعد أن فقدوا كل ممتلكاتهم وأرزاقهم هي بمثابة إنذار أحمر لا ينطفئ في عيون الدولة الصهيونية التي ترى فيها إثبات وجود لسكان الأرض الأصليين، وجود حاول الصهاينة لسنوات محوه كي يقنع العالم بمزاعم “أرض بلا شعب”.

وفي كل مرة يلوح اللاجئون الفلسطينيون بهذه البطاقات، يتحسس الصهاينة أوراقهم الثبوتية المزورة، فهذه البطاقة تذكرهم بمن هم ومن أين أتوا، وربما تذكرهم بأنهم أنفسهم جاؤوا لاجئين أيضًا مطرودين من أوروبا التي نفضتهم عن كاهلها لترمي بهم في أرض لا يعلمون عنها شيئًا سوى ما يخبرهم به أحبارهم وكهنتهم.

تفكيك الأونروا يعني إلغاء كلمة لاجىء

وأمام هذا البطاقة الزرقاء أيضًا، طالما سعت دولة الاحتلال إلى محو وكالة الأونروا وتفكيكها وتجفيف منابعها، ليس فقط لتجويع وزيادة معاناة اللاجئين الفلسطينيين وإنما أيضًا لطمس كلمة لاجىء، فهذه الكلمة هي محور كل شيء وأساس كل الصراع، ومن دونها تلغى الحقوق وينسى العالم فلسطين التاريخية ومن كان فيها.

وبالرغم من أن الأونروا تعد وكالة إنسانية وإغاثية بالدرجة الأولى، وليس لها سلطة سياسية في التدخل أو حل الصراع القائم، إلا أنها تواجه منذ تأسيسها حربًا وجودية من قبل دولة الإحتلال، تشتد هذه الحرب أحيانًا مع سخونة الأحداث وأحيانا تهدأ ولكنها لا تتوقف، إذ ترى دولة الاحتلال وجود الأونروا مرتبطا بوجود الفلسطينيين ومبدأ “حق العودة” ولا بد من إزالتها.

وفي حربها على غزة لم تستثنِ دولة الاحتلال مباني الأونروا من القصف والتدمير، تلك المنشآت التي كانت تؤوي نازحين التمسوا الأمان في مباني الوكالة الأممية، لكن النيران طالت النازحين والمباني والعاملين في الأونروا، إذ قتلت حتى شهر إبريل/نيسان 180 من موظفي الوكالة ودمرت 160 مبنى تابعًا لها في غزة.

ولم تعلق الولايات المتحدة والدول الداعمة للاحتلال الإسرائيلي على قتل النازحين أو موظفي الأونروا وتدمير مبانٍ تابعة للأمم المتحدة، لكنها سارعت إلى تصديق الاتهامات الإسرائيلية وأوقفت الدعم للوكالة وعلّقت عدة دول مانحة أو جمّدت تمويلها بقيمة 450 مليون دولار تقريبًا قبل حتى إجراء أي تحقيق حول تلك المزاعم، لتعود الآن بعض تلك الدول تجر أذيال الخيبة، ومنها ألمانيا لتعلن عن استئناف التمويل بعد صدور التقرير المحايد الذي أنصف الوكالة ورفع عن كاهلها الأكاذيب الملفقة.

ما تتعرض له الأونروا منذ تأسيسها ودوافعه، عبر عنه فيليب لازاريني المفوض العام للوكالة في تصريح له، إذ قال إن قضية الحياد ليست بالضرورة هي الدافع وراء الهجوم الذي تتعرض له وكالة الأونروا، الدافع الأساسي من الهجوم هو تجريد الفلسطينيين من وضعية اللاجىء وإن إسرائيل تعتقد أنه “إذا قضي على الوكالة، فستحل مسألة حالة اللاجئين الفلسطينيين مرة واحدة وإلى الأبد، ومعها حق العودة”.

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر