من وراء بيان “فتح”؟!

مسيرة في يوم الشهيد الفلسطيني نظمتها حركة فتح في بيروت ونددت بالإبادة الجماعة في غزة (الأناضول)

لا أحد يعرف على وجه اليقين، مَنْ ذا الذي أصدر البيان، المنسوب لحركة “فتح”؟ ردًا على انتقادات حركة المقاومة “حماس” لقرار رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس، تعيين حكومة جديدة، برئاسة الدكتور محمد مصطفى.

البيان بدا كمولودٍ من حَمْلٍ سِفاحًا، لا يريد أيٌّ القيادات الوازنة في “فتح”، التورط في الاعتراف به، وهناك تسريباتٌ صحفية وهمهماتٌ سياسية، بأن الرئيس عباس، قد قرأه في وسائل الإعلام، مثلما قرأه غيره، ولم يُعرض عليه أو يُستفتَ في أمره، كما يُشاع على نطاقٍ واسع، أن جناحًا له علاقات مشبوهة بتل أبيب، في الداخل الفتحاوي يقف وراءه، أفكارًا وديباجةً وبثًا إلى وكالات الأنباء، بغرض دق إسفين بين الحركتين الفلسطينيتين الأبرز، في هذا الوقت العصيب من تاريخ القضية.

من المؤشرات الدالة على ذلك، أن عضو المجلس الثوري للحركة بسام زكارنة، كتب على صفحته على فيسبوك أن “البيان لا يُمثِّل فتح”، مضيفًا “أنا كعضوٍ ثوريَّ، أرفض أيَّ بيان لم يُصادق عليه المجلس، ولا ناطق أو بيان يُمثِّلنا، وهناك بيانات لا تعبِّر عن رأي الحركة”.

ومضى زكارنة: “ودون الخوض بالتفاصيل: النظام ينص على أن بيانات فتح، تصدر بعد اجتماعات المركزية أو الثوري، ولا يكتبها أشخاص”.

وبالرغم من اكتفاء زكارنة بتلميحٍ قد يُغني عن التصريح، وتحاشيه التطرق إلى التفاصيل، فإن ذلك لا ينفي أن الشيطان يكمن فيها، والواضح من تلك التفاصيل، أن صدور البيان من وراء ظهر جناح من “فتح”، يعني بغير شَططٍ، أن الأزمة الحقيقية، ليست فتحاوية حمساوية فحسب، بل هي فتحاوية فتحاوية في الأساس، وفي الحالتين يظل الخطر داهمًا على الكل الفلسطيني.

مقدمات ودلالات واستنتاجات

وبعيدًا عن القرائن وتأويلاتها، بشأن ملابسات إصدار القرار، يبقى نصه في حد ذاته، مُشينًا لمن أصدره، ومُخزيًا لمن وراءه، وعارًا على من يؤيده.>

أن تتهم حركة “فتح” شقيقتها “حماس”، بالتسبب في نكبةٍ جديدة، وذلك في بيان رسمي تناقلته وسائل الإعلام الدولية، وكذلك العربية التي هرع بعضها إلى الاحتفاء بالهجوم على المقاومة، في سلوك مقزز لكنه غدا مفهومًا، وأن تصف الحركة التي تُمثِّل السلطة الفلسطينية، عملية “طوفان الأقصى” البطولية، بـ “مغامرة غير محسوبة”، تسببت في “إعادة احتلال غزة”، أن تجد الجرائم الإسرائيلية التي استقبحها الضمير العام العالمي، مبررًا وذريعة، وكذلك أن يحظى مجرم الحرب نتنياهو بورقة توت، تستر سيئاته السياسية، وسوءاته الإجرامية.

فضلًا عن ذلك، فإن ما وراء مصطلحات البيان، وما فيها من إيحاءات، يدفع المنطق إلى أن يضرب كفًا بكف، فعملية “الطوفان” لم تخترع نكبة جديدة، ذلك أن هذه مستمرة بغير توقف منذ عام 1948، هذا ناهيك عن أن غزة لم تتحرر من الاحتلال، حتى بعد الانسحاب أحادي الجانب، من قبل حكومة شارون عام 2005، فذاك الانسحاب، الذي أطلقت عليه تل أبيب في حينه، “فك ارتباطٍ لإبداء حسن النوايا”، لم يحتوِ على مثقال حبة من خردل، أو أدنى من ذلك، من حسن النوايا.

كان الانسحاب بالنسبة لإسرائيل، كالعلقم الذي تجرَّعته على مضضٍ، تحت ضغط ضربات المقاومة، وفي الصدارة منها عملية “نتساريم” التي قُتل فيها ثلاثة من جنودها، وهي العملية التي وصفها الإعلام العبري من فوره، بالقشة التي قصمت ظهر شارون رئيس الحكومة آنذاك.

وبما أن الحال كذلك، فإن عبارة “إعادة احتلال غزة”، تُعدُّ كلامًا كوميديًا مضحكًا، لكنه من أسفٍ ضحك كالبكاء، ذلك أنه منذ “فك الارتباط” شنَّت آلة الحرب الإسرائيلية، ست حروب عدوانية على القطاع، أربعٌ منها تحت قيادة مجرم الحرب نتنياهو، وبالتوازي لم تتوقف عمليات الاغتيال الجبانة لقياديي المقاومة، ولا حملات الاعتقال، ولا الحصار بغية التجويع، ذلك إضافة إلى العدوان الراهن، والمستمر منذ نحو ستة أشهر.

وهكذا يغدو الدفع بأن “الطوفان” هي السبب في العدوان أو الاحتلال، محض تخريفٍ لا يمت إلى سياق الواقع التاريخي في الأمس والحاضر، وذلك ببساطة لأن العدوان لم يتوقف إطلاقًا، وغزة لم تكن حرَّةً في أي وقت، كذلك السلطة الفلسطينية في رام الله، لا نفوذ لها على أي شيء، ولم يكن لها في أي وقت نفوذ على أي شيء، اللهم إلا سلطة رئيسها عباس، أن يطلب إلى أهل بيته، تحضير “المقلوبة” لإفطار رمضان.

والمؤسفُ علاوةً على ما تقدم، أن لهجة البيان في مخاطبته “حماس”، تنضح غِلًّا وبغضاءَ وفظاظةً، وتُحوّل خلافًا سياسيًا -كان يجب أن تتجنبه الحركتان نظرًا لمقتضيات الظرف الزماني- إلى صراع صفري، ذي لهجة “إقصائية متشنجة”، تُصادر على “حماس” نضالها وتصديها ودماء شهدائها، من قمتها؛ الشيخ أحمد ياسين، إلى آخر مقاتل يرتقي شهيدًا، في غضون كتابة هذه السطور.

اتهام “فتح” الفلسطينية، لـ “حماس” الفلسطينية، بأنها خارجة عن الإجماع الوطني الفلسطيني، لا يختلف مغزاه المُضمَّر، عن تشدُّق نتنياهو بأن الحركة إرهابية، تسيطر على غزة بقوة البطش، وتستخدم المدنيين دروعًا بشرية، ذلك فضلًا عن أنه لا عقلانية في التشكيك في قياداتها، الذين ذهب البيان إلى أنهم يبتغون مآرب شخصية، عبر التفاوض مع إسرائيل، من دون تبيان لماهية هذه المآرب.

واللافت أن مصطلحي “شق الصف” و”الثوابت الفلسطينية”، مشوشان غامضان، وفي حاجة إلى تعريفهما بدقة، حتى لا تصيبهما السيولة المائعة، التي أصابت “فتح”، منذ هرولت إلى أوسلو، فوضعت البيض كله في سلة المفاوضات.

ما الثوابت التي تريد فتح أن تلتزم بها “حماس”؟

هل المقصود أن تصطف مع “فتح” لتأدية الدور المطلوب إسرائيليًا والمتمثل في “ردع المقاومة” أو بالأحرى “مقاومة المقاومة”؟

وهل قضية فلسطين منتزعة -أو يجوز انتزاعها- من إطار ثوابت الإنسانية الأخلاقية بشأن حق الشعوب في مقاومة المُحتَّل بشتى السبل؟

أزمة المناضلين المتقاعدين

أغلب الظن أن أزمة “فتح” حاليًا، تكمن في أنها تتشكَّل من رهطٍ من “المناضلين المتقاعدين”، ممن يحلمون بعد سنوات الكفاح، أن يصيروا رؤساء وقادة سياسيين، يحظون بمراسم بالاستقبال رسميًا، لدى زيارة عواصم العالم، ويمنون أنفسهم بالتبختّر “طاووسيًا” فوق السجاجيد الحمراء، لدى عزف السلام الوطني الفلسطيني، وهو الأمر الذي لن يتسنى أبدًا، بالمفاوضات فحسب، أي بتكرار المسارات والأخطاء والخطايا، التي أوصلت الوضع، إلى ما هو عليه الآن.

أكثر من ثلاثين عامًا من “سلام الأوهام” بعد مفاوضات أوسلو، وفق عنوان كتاب الراحل محمد حسنين هيكل، والمفاوض الفلسطيني يبتلع الخديعة تلو الخديعة، ويمشي كالمُنوَّم مغناطيسيًا، وراء الأكاذيب الإسرائيلية والأمريكية، لحد باب الدار، دون أن يفهم أو لعله يأبى أن يفهم، أن الصهاينة لن يقدموا شيئًا، إلا وفق المعادلة التي لم يتخل عنها نتنياهو أبدًا؛ “السلام مقابل السلام”.

الحقيقة التي لا يأتيها الباطل، من فوقٍ أو من تحتٍ، أنه ما دامت الأرض محتلة، فالكل الفلسطيني مستهدف، ومعتدٍ عليه، ومن ثم فالتعاطي معها يقتضي الاصطفاف بالطبع، ولكنه اصطفاف مع المقاومة، على الأقل في الوقت الراهن، إذ يجهر العدو برغبته في شطب القضية كليًا، عبر تصفية أصحاب الأرض “كلهم دون استثناء”، أو تهجيرهم قسريًا، أو حشرهم في القطاع وفق شروط حياة إسرائيلية، كشروط حياة الدجاج في العشة.

بعبارة أوضح، إن “فتح” يجب أن تلتزم قبل غيرها بوحدة البوصلة، واتحاد الصف على مرجعية ثوابت القضية الفلسطينية، وألف باء تلك الثوابت، أن مقاومة الاحتلال حق أصيل، ومن ثم ليس منطقيًا تأثيم المقاومة، لكونها حاولت في إطار إمكانياتها أن ترد صفعة واحدة للجلاد، الذي لا تكف سياطه عن نهش لحم ضحاياه، من الشعب الفلسطيني بأسره.

قبل أيام استضافت قناة الجزيرة مباشر، السياسي المصري المُخضرَّم، والأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، الذي أجاب على سؤال عما إذا كانت “حماس” مسؤولة عن العدوان على غزة قائلًا: “هذا كلام فارغ، فالمقاومة ستبقى ما بقي الاحتلال”.

الظاهر أن دبلوماسية موسى منعته من أن يقول بجلاء: “إن بيان فتح كلام فارغ”، فآثر أن يرسل إشاراته ترميزًا، لعل لبيبًا يفهم، إن كان ما يزال هناك ألبَّاء في الحركة، وهو الأمر الذي يبدو مستبعدًا، بالنظر إلى بيانها الذي يبدو إسرائيليًا، ولسانه عبري مبين.

المصدر : الجزيرة مباشر