الولايات المتحدة بين ترسيخ الهيمنة والانفجار الداخلي

التحدي الأكبر سيكون عند عودة ترمب إلى الحكم (الفرنسية)

خمس سنوات فقط، كانت كفيلة بالكشف الدقيق عن أبعاد وأدوات الحضور الأمريكي، خارجيًّا، ومؤشرات التراجع والانهيار داخليًّا، فخلال الفترة من 2019 و2024 تعددت التحولات الخارجية والداخلية، التي كانت لها انعكاساتها على السياسات الأمريكية، بداية من ممارسات ترامب في مواجهة حلفاء الولايات المتحدة، مرورًا بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعيات طوفان الأقصى، وصولًا إلى تمرد طلاب عشرات الجامعات الأمريكية ضد السياسات الخارجية لإداراتهم، وخاصة تلك الداعمة بلا حدود لحرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين.

مؤشرات الهيمنة وإعادة هيكلة الوجود الأمريكي

أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن تطوير عمليات تدريب وتجهيز الجيش الأوكراني؛ مما يعكس التزام إدارة الرئيس جو بايدن الطويل الأمد، بدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، ومن شأن هذا القرار تعزيز نظام التدريب والمساعدة، الذي أُنشئ في أعقاب الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022. النظام سيكون تحت قيادة واحدة جديدة مقرها ألمانيا ويقودها جنرال أمريكي رفيع المستوى، كما التزمت الإدارة الأمريكية بضخ عشرات المليارات من الدولارات مساعدات عسكرية لأوكرانيا، آخرها، وليس الأخير، إقرار الكونغرس الأمريكي بمجلسيه مساعدات بقيمة 61 مليارًا في 25 إبريل/نيسان 2024.

القيادة الأمريكية الجديدة ستنفذ القرارات التي اتخذتها مجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية، وهي تحالف من 40 دولة أنشأته وزارة الدفاع بعد الغزو الروسي؛ لتلبية احتياجات أوكرانيا وطلباتها، وسيُكرَّس حوالي 300 شخص للمهمة، التي سيكون مقرها مدينة فيسبادن بألمانيا، حيث يقع مقر الجيش الأمريكي في أوروبا. ويجري بالفعل الكثير من تدريبات الجنود الأوكران على أنظمة الأسلحة الأمريكية هناك أو بالقرب منه، وصُمِّمَت التغييرات على غرار جهود التدريب والمساعدة الأمريكية في العراق وأفغانستان على مدار العقدين الماضيين.

وقد اتخذ البنتاغون خطوات لبدء التوحيد المتوقع لمهام التدريب والتجهيز، حيث انتقلت إلى هناك وحدة من المتخصصين في مجال الخدمات اللوجستية والتجهيزات العسكرية تحت مسمى “المركز الدولي لتنسيق المانحين”.

وفي نفس السياق دفعت الحرب الروسية الأوكرانية، من ناحية، وتداعيات طوفان الأقصى من ناحية ثانية، في اتجاه إعادة صياغة الاستراتيجيات الأمنية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وهو ما تجسَّد في توجه العديد من الدول الأوروبية نحو تحديث وتقوية منظوماتها العسكرية، والدعوات إلى تشكيل قوة أوروبية موحدة، فضلًا عن توجه الولايات المتحدة نحو تعزيز حضورها العسكري في القارة الأوروبية والشرق الأوسط، وحوض المتوسط، وتأكيدها أولوية الدفاع عن أمن حلفائها وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني، وهي تحركات تستهدف على نحو رئيسي الاستجابة للبيئة الأمنية الحالية في أوروبا والمنطقة، وما فرضته حرب أوكرانيا والطوفان من تحديات.

ولا يمكن فصل التوجه نحو إعادة نشر وزيادة أعداد القوات الأمريكية في أوروبا عن الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى تعزيز الحضور في أوروبا، خصوصًا في منطقتَي الوسط والشرق القريبة من روسيا، بهدف ممارسة الضغط على روسيا ومواجهة النفوذ والاختراق الصيني المتنامي في شرق أوروبا فضلًا عن تعزيز تحالف الولايات المتحدة مع دول المنطقة.

وقد تصاعدت مؤشرات توجُّه الولايات المتحدة نحو تعزيز حضورها العسكري في أوروبا والشرق الأوسط، بين عامي 2021 و2024:

أول المؤشرات، تعزيز القوات والقواعد الأمريكية في أوروبا، ففي 22 مايو/أيار 2022، أكدت الخارجية الأمريكية، أن الولايات المتحدة ستحتفظ بالقوات التي نشرتها في أوروبا، بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا، كما أكدت أنها ستحتفظ بـ100 ألف جندي في أوروبا؛ لمواجهة التهديدات الروسية، وأن عدد القوات قد يزداد مؤقتًا إذا أجرى الناتو مزيدًا من التدريبات العسكرية في المنطقة، كجزء من السعي إلى ردع روسيا عن تهديد أي حليف أوروبي لواشنطن.

وقال رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، إنه يؤيد إنشاء قواعد أمريكية دائمة في أوروبا الشرقية ردًّا على هجوم روسيا على أوكرانيا، وأضاف أن انتشار القوات الأمريكية في تلك القواعد يمكن أن يكون دوريًّا، مشيرًا إلى أنه لا يعتقد أن الولايات المتحدة بحاجة إلى نشر قوات على نحو دائم لإيجاد قوة ردع فعَّالة.

وما يُكسب هذه الفرضية زخمًا متزايدًا، هو التقديرات الغربية التي تذهب إلى أن قرار إقامة قواعد عسكرية دائمة في منطقة شرق أوروبا والبلطيق سوف يَلقى ترحيبًا كبيرًا من العديد من حلفاء واشنطن في المنطقة، مثل بولندا ورومانيا، بل إنهم سوف يتولون بناء هذه القواعد وتحمُّل نفقاتها.

ثاني المؤشرات، إعادة نشر قوات في شرق أوروبا، فقد أرسلت الولايات المتحدة نحو 2000 جندي من قاعدة فورت براج العسكرية بولاية نورث كارولينا، إلى بولندا وألمانيا، وينتمي نحو 1700 من القوات الأمريكية التي غادرت “فورت براج” إلى الكتيبة 82 المحمولة جوًّا من القوات الخاصة البرية، وقد اتجهوا مباشرةً للتمركز في قاعدة بونانزا الأمريكية على الأراضي البولندية في شرق أوروبا.

كما أن نحو ألف من الجنود الأمريكيين المتمركزين في ألمانيا تمت إعادة نشرهم في رومانيا، وسيكونون جزءًا من قوة سترايكر، وسوف ينضمون إلى نحو 900 جندي أمريكي موجودين بالفعل على الأراضي الرومانية. وإضافة إلى تلك القوات، هناك أيضًا 7 آلاف من القوات الأمريكية يجري نشرهم بطريقة تدويرية عبر دول أوروبا الأعضاء في حلف الناتو ضمن قوة العزم الأطلسي، ومقرها بوزنان في بولندا.

عندما تحارب الإمبراطورية عبر شبكة من التحالفات

أما ثالث المؤشرات فكان تعزيز دور مؤسسات الشراكة الأوروبية الأمريكية، فقد أكدت تداعيات الحرب في أوكرانيا وفي فلسطين على الدور القيادي الأساسي لواشنطن، باعتبارها حامية الأمن الأوروبي، وبرهنت لحلفائها من الناتو على واقع أنهم لن يستطيعوا حماية أنفسهم إلا تحت المظلة الأمريكية.

إذ فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق استقلاله الاستراتيجي الخاص على الرغم من كل خططه وطموحاته، كما فشلت المؤسسات الأخرى، مثل الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في الاستجابة بالشكل المناسب للهجوم الروسي والتهديد الأمني الذي أصبحت موسكو تمثله لأوروبا، كما فشلت هذه المؤسسات في حفظ السلم والأمن الدولي في ظل تداعيات طوفان الأقصى منذ السابع من أكتوبر 2023.

وأعاد حلف الناتو اكتشاف مهمته الأصلية بعد انسحابه من أفغانستان، التي تتمثّل في احتواء روسيا، لكن أحد الفروق الأساسية هنا يكمن في أن الناتو سينسق عن قربٍ أكثر مع الشركاء الآسيويين، في أعقاب تصنيف الحلف للصين على أنها خصم. وستقود الولايات المتحدة التجمع الغربي، الذي يضم أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، في السعي من أجل احتواء روسيا والصين في آنٍ واحد. وستأتي تلك القيادة من خلال الحوار الأمني الرباعي، واتفاقية أوكوس، والتحالفات الثنائية مع الدول الآسيوية.

وتمثل المؤشر الرابع في إطلاق عملية حارس الازدهار، ففي 19 ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، عن تشكيل قوة متعددة الجنسيات لحماية التجارة بالبحر الأحمر في أعقاب هجمات شنها الحوثيون على سفن متجهة إلى إسرائيل، وقال أوستن، خلال زيارته البحرين التي تضم مقر الأسطول الأميركي الخامس، إن الدول المشاركة في القوة هي بريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا، مضيفا أنها ستنفذ دوريات مشتركة في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، لضمان حرية الملاحة وتعزيز الأمن الإقليمي، وتشكيل تحالف دولي لضمان أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر.

 

الداخل الأمريكي ومستقبل الدولة والإمبراطورية

وفي ظل هذه المؤشرات سيتعين على واشنطن تولّي دور القيادة في مساعدة حلفائها من أجل العثور على بدائل استراتيجية لحماية الأمن الإقليمي والدولي، وسيكون على الولايات المتحدة أن تنظر إلى ما هو أبعد من حلف الناتو عند تقييم الأهمية الاستراتيجية لأوروبا، وأبعد من فكرة القواعد العسكرية وتشكيل التحالفات الإقليمية، لفرض الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، خاصة وقد كشفت ممارسات الإدارة الأمريكية عن تراجعات حادة في صورة الولايات المتحدة والتقييم الاستراتيجي لدورها، ليس فقط بين دول المنطقة وشعوبها، ولكن أيضًا بين أهم شريحة سكانية في المجتمع الأمريكي، متمثلة في طلاب الجامعات.

فالتمرد الطلابي أو انتفاضة الطلاب أو ثورتهم، أيًّا كان التوصيف، الذي شهدته عشرات الجامعات الأمريكية، خلال شهر إبريل/نيسان 2024، يعكس حجم التحول الكبير في بنية المجتمع الأمريكي، ويعود بنا إلى كتابات صمويل هنتنغتون وجيمي كارتر ونعوم تشومسكي، حول أن الداخل الأمريكي وتحولاته البنيوية يمكن أن يكون صاحب القول الفصل في بقاء واستمرار الهيمنة الأمريكية.

وسيكون التحدي أكبر نطاقًا وأشد أثرًا في حال عاد دونالد ترمب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وخاصة أن ولايته الأولى بين يناير/كانون الثاني 2017 ويناير 2021، كانت كارثية على بنية المجتمع الأمريكي وأطلقت العنان لتمدد وتصاعد حضور وتأثير التيارات الشديدة اليمينية والعنصرية، بل والصهيونية. وإذا عاد ترامب على وقع تداعيات الانتفاضة الطلابية، وتلويحات سابقة لكل من كاليفورنيا وتكساس بالانفصال عن الولايات المتحدة، فإننا يمكن أن نكون أمام واقع جديد، عنوانه الكبير: عندما تنهار الإمبراطوريات من الداخل.

المصدر : الجزيرة مباشر