إسرائيل من العزلة العربية إلى التطبيع المجاني

الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (وسط) يهنئ الرئيس المصري أنور السادات (يسار) ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن (يمين) أثناء تصافحهما في 26 مارس 1979 في البيت الأبيض، بعد التوقيع على معاهدة السلام (الفرنسية)

كانت عزلة إسرائيل اقتصاديا ودبلوماسيا في محيطها العربي والدولي، من أخطر التحديات التي تواجه الكيان منذ قيامه سنة 1948. وكشف إيتان شامير، الأكاديمي الإسرائيلي المخضرم ومدير مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية والرئيس السابق لقسم عقيدة الأمن القومي في وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، عن ذكاء ديفيد بن غوريون -وهو أول رئيس للوزراء في إسرائيل، ويعدّ من جيل الآباء المؤسسين للكيان- في استشراف استراتيجية لكسر الحصار المفروض على الكيان المنبوذ.

وفي مقاله المنشور على موقع المعهد قبل طوفان الأقصى بثمانية أشهر فقط، في 25 يناير/كانون الثاني سنة 2023، أوضح أيضا كيف استخدم رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو ملكاته الدبلوماسية المتفردة في تحقيق استراتيجية بن غوريون وتتويج الجهود بدمج إسرائيل في محيطها العربي والإقليمي والدولي.

وصف شامير حالة العزلة التي كانت عليها الدويلة الوليدة بقصة وقعت أحداثها في أكتوبر/تشرين الأول 1956، عندما اقتحم جنود إسرائيليون مواقع عسكرية مصرية في سيناء خلال حملة سيناء، فيما نسميه العدوان الثلاثي. وفي مطبخ بيت أسرة مصرية، عثر الجنود على مشروب داكن اللون حلو المذاق. وكان المشروب هو “كوكا كولا”. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يذوق فيها الإسرائيليون هذا المشروب على الإطلاق.

حيث شاركت شركة “كوكا كولا” الدول العربية آنذاك في مقاطعة إسرائيل مثل الكثير من الشركات العالمية التي قاطعت إسرائيل خوفا من العقوبات العربية. وهي الشركة التي ترمز إلى الرأسمالية الغربية والحياة الثرية في العالم الحر. ولا عجب في أن ترى شركات مثل “كوكا كولا” أن مصالحها تكمن في أسواق العالم العربي والإسلامي، ولا معنى للتضحية بهذه السوق من أجل السوق الإسرائيلية الصغيرة.

استراتيجية بن غوريون لكسر الحصار العربي

في أكتوبر 1953، انخرط رئيس الوزراء، ديفيد بن غوريون في دراسة التحديات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، وكشف لاحقا عن “ندوة بن غوريون الثانية”. وخلص إلى أن إسرائيل تواجه كتلة مكونة من 22 دولة عربية تدعمها كتلة إسلامية أكبر، متفقة جميعها على رفض الاعتراف بإسرائيل والتزامها بمقاومة وجودها ذاته. وكانت النظرة إلى مستقبل إسرائيل في ذلك الوقت قاتمة.

وضع بن غوريون استراتيجية لتعزيز “أمن إسرائيل” تقوم على ثلاثة محاور، الالتزام بالحفاظ على التفوق البشري، والتقدم التكنولوجي، والارتباط بقوة عظمى. حاول بن غوريون تعزيز تحالف هامشي بين إسرائيل والدول الإسلامية “المعتدلة” المؤيدة للغرب مثل تركيا وإيران، فضلًا عن الأقليات القومية مثل الأكراد في العراق. وعرضت إسرائيل خبرتها الزراعية على دول العالم الثالث في إفريقيا وآسيا في محاولة أخرى لبناء الجسور الدبلوماسية.

ولكن في ضوء حقيقة أن إسرائيل كانت دولة فقيرة ليس لديها ما تقدمه للشركاء، لم تسفر هذه المحاولات إلا عن القليل. وكان على إسرائيل أن تعتمد على قوتها العسكرية، والدعم من حليفتها الرئيسية فرنسا، ودعم أكثر تواضعا من الولايات المتحدة وألمانيا.

إسرائيل بعد حرب الأيام الستة سنة 1967

ظل وضع العزلة على ما هو عليه حتى حرب الأيام الستة، التي نسميها “النكسة”. تغير موقف إسرائيل بشكل كبير في أعقاب تلك الحرب، التي أيقظت العالم على براعتها العسكرية، وأظهرت أنها أصبحت قوة لا تقهر بالقوة. وبدأت شركة “كوكا كولا” وغيرها من الشركات العابرة بيع منتجاتها في إسرائيل دون اكتراث للضغوط العربية.

ويرى شامير أن اجتماع العرب في الخرطوم، في الأول من سبتمبر/أيلول 1967، وإصدار “اللاءات الثلاث” الشهيرة (لا سلام مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات معها) كان سريعًا في إعادة إسرائيل إلى حالتها الأولى من العزلة في الشرق الأوسط على الأقل.

بعد أكتوبر 1973، وقعت إسرائيل تحت ضغوط الدبلوماسية العربية، واستسلم أصدقاؤها في أوروبا الغربية للإرادة العربية. وأثبت حظر النفط العربي أنه سلاح فعال، ويمكن من خلاله الضغط على الغرب لحمله على الالتزام بأهداف السياسة العربية اتجاه إسرائيل. وتطلب الأمر حربًا أخرى يكون للدبلوماسية فيها الدور الأهم.

السادات يفتح باب التطبيع

يقول شامير، من خلال “شجاعة” الرئيس المصري، أنور السادات حدث انشقاق في حائط صد العالم العربي، إذ قام بالتوقيع على اتفاق سلام مع إسرائيل لتحقيق ما اعتبره “مصلحة” مصر. تشدق السادات بالقضية الفلسطينية مقابل حصوله على كل ما طالب به لمصر: الاستعادة الكاملة لأراضيه والرعاية الأمريكية لتحل محل رعاية حلفائه السوفييت.

كان السلام باردًا، ولكن مع ذلك، كان توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد “حدثًا فاصلًا” في تاريخ إسرائيل “ونجاحًا باهرًا” لرؤية واستراتيجية بن غوريون الكبرى. وكان الأمل أن تحذو المزيد من الدول العربية حذو مصر، لكن هذه الآمال كانت سابقة لأوانها، حيث وجدت مصر نفسها مقاطعة عربيا ومعزولة.

لم يكن المسرح مهيّأً لتحقيق اختراق آخر إلا في نهاية الحرب الباردة، وجاء دور الدبلوماسية مرة أخرى بتوقيع “اتفاقية أوسلو” وتشكيل السلطة الفلسطينية والتسويق لها على أنها الخطوة الرئيسية نحو تنفيذ حل الدولتين. وكانت توقعات إسرائيل أن المزيد من الدول سوف تحذو حذو مصر في تحقيق السلام مع إسرائيل.

وقد بدأ ذلك يتحقق بتوقيع الأردن، معاهدة سلام مع إسرائيل، وفق شامير. ولكن منذ ذلك الحين، سارت عملية السلام مع الفلسطينيين من سيّئ إلى أسوأ، وتوقفت قدرة إسرائيل على تحقيق اختراقات وتحالفات دبلوماسية جديدة، لأنها تعتمد على تقدم مسار المفاوضات الفلسطينية. وأصبح الطريق الوحيد أمام إسرائيل للتطبيع مع الدول العربية الأخرى واكتساب الشرعية هو تقديم تنازلات للفلسطينيين.

دبلوماسية نتنياهو تخترق الفضاء العربي

على النقيض من هذا التصور، كانت سياسة بنيامين نتنياهو مبنية على أن “المشكلة الفلسطينية” يجب ألا تكون شرطًا وعائقًا يحتاج إلى حل لإحراز إسرائيل تقدمًا دبلوماسيًّا وتجاريًّا مع جيرانها. وسعت إسرائيل، في عهد نتنياهو، إلى تعزيز علاقاتها بدول عربية كثيرة، من خلال التعاون العسكري والدفاعي والتجارة والتكنولوجيا والأمن.

وبدأت إسرائيل تنظر إلى نفسها على أنها “زعيمة” اقتصادية لديها قدرات تكنولوجية وأمنية تساعد على حماية “الأنظمة العربية” من التهديدات “الداخلية” التي تشكلها الجماعات الدينية “المتطرفة” في أعقاب تداعيات “الربيع العربي”، وكذلك التهديدات الخارجية التي تشكلها إيران. وبلغت هذه السياسة ذروتها بعد ذلك.

يقول شامير، يتعين على إسرائيل أن تنسب الفضل إلى رؤية بن غوريون، إذ إنه في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل معزولة ومقاطعة، أكد أنها قادرة على البقاء إذا ركزت طاقتها على تطوير تفوقها في العلوم والتكنولوجيا، وقبل كل شيء، طاقتها البشرية.

ويكشف شامير عن فرص أمام إسرائيل لتعزيز هيمنتها ومكانتها في المنطقة من خلال التعليم، وشبكات ألياف الإنترنت، وتكنولوجيا تحلية المياه، والطب، والأمن، والطاقة، والزراعة، والأمن الغذائي. وطبيعي أن شامير لم يذكر أن هذه المجالات يحقق العرب فيها فشلا ذريعا وتخلفا مريعا.

العرب فتحوا باب التطبيع مجانا

إسرائيل لم تتمدد في الفضاء العربي بنقل التكنولوجيا الإسرائيلية إلى هذه الدول. وباستثناء الخدمات الأمنية، لم تستفد الدول العربية، حكامًا وشعوبًا، من إسرائيل خيطًا في إبرة. يقول بن غوريون، لو كنت زعيما عربيا، لن أوقع أي اتفاق مع إسرائيل، فهذا طبيعي، لقد أخذنا أرضهم. ولكن الحكام العرب تسابقوا في توقيع معاهدات لم تنفع الشعوب ولم تشفع للحكام. وقد صدق بن غوريون حين قال: نجاحنا لا يعتمد على ذكائنا بقدر ما يعتمد على جهل وغباء الآخر.

والدليل على ذلك، أن إسرائيل لم تنقل تكنولوجيا الزراعة والمياه والأمن الغذائي والصحة والألياف الضوئية إلى مصر، التي أقامت أول معاهدة سلام معها وفتحت لها باب التطبيع في المنطقة العربية، ولا إلى غيرها. في الثمانينيات أقام خبراء زراعيون إسرائيليون في مصر، ونفذوا تجارب علمية طويلة باتفاقية “علمية” مع وزير الزراعة السابق، يوسف والي، وكان من نتائجها تدمير القطن المصري الطويل التيلة، وأصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.

المصدر : الجزيرة مباشر