واجب الإنسانية.. قصة أمّ فلسطينية في رسالة صوتية!

أطفال غزة يعيشون أوضاعا غير إنسانية منذ بداية العدوان الإسرائيلي
أطفال غزة يعيشون أوضاعا غير إنسانية منذ بداية العدوان الإسرائيلي (رويترز)

 

وصلتني رسالة صوتية في الأيام الأولى من العدوان على غزة، من أمّ فلسطينية لثلاثة أطفال كانت تعيش مع زوجها في حي الرمال الكائن في أقصى شمال شرقي مدينة غزة، تروي فيها رحلة نزوحها وأطفالها الثلاثة من الحي، ما كنت أريد أن أنقلها، حتى لا أزيد أصحاب القلوب المتعاطفة وجعا، ولكن يبدو أن وقتها وجب. تقول أم محمد “تركت البيت بعد أمر قوات الإحتلال بإخلاء الحي بعد ساعات من بداية طوفان الأقصى، وبعد تعرُّض الحي للقصف المتواصل وتدمير العمارات السكنية على رؤوس ساكنيها”.

وحي الرمال القريب من الخط الفاصل مع أراضي فلسطين المحتلة، هو من أغنى وأجمل أحياء مدينة غزة، وأكثرها كثافة سكانية، إذ يقطن فيه نحو 70 ألف نسمة، وتبلغ مساحة الحي نحو 5 كيلومترات مربعة، وهو شريان الحياة التجارية في شمال شرقي القطاع، ويضم مقار معظم المؤسسات الدولية والمحلية ومؤسسات المجتمع المدني، وكثيرا من الأبراج السكنية والإدارية والمدارس والجامعة الإسلامية وجامعة الأزهر.

ويضم الحي مقر المجلس التشريعي والشرطة والأمن، ومقر وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ويضم كذلك برج فلسطين، وهو من أكبر الأبراج السكنية التجارية في القطاع كله، ويتكون من 14 طابقا، ويضم العديد من المؤسسات الإعلامية والعيادات والشقق السكنية. ولرمزية اسم البرج، بادرت طائرات الجيش الإسرائيلي باستهدافه في باكورة الرد على عملية طوفان الأقصى في نهاية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول بغارات حتى تدميره بالكامل. ولم ينتهِ اليوم الثاني للعدوان حتى تم تدمير الحي بالكامل.

تقول أم محمد “توجهت بأطفالي دون زوجي إلى بيت أهلي في الحي المجاور. ولكن في اليوم التالي جاءهم أمر بإخلاء الحي كما حصل في حي الرمال، فاتجهت إلى بيت حماتي في حي غرب مدينة غزة. وبعد يومين جاءنا أمر بإخلاء الحي كما حصل سابقا، فقررت اصطحاب أولادي والنزوح بالسيارة إلى مدينة رفح جنوبي القطاع”.

تصف آلاء الرحلة إلى الجنوب يوم 12 أكتوبر بأنها تشبه يوم القيامة “الطريق ممتلئ بالنازحين وهم يحملون أغراضهم سيرا على الأقدام وفي سيارات مكشوفة ومكتظة بالنازحين فيما يشبه يوم الحشر. الجميع يحشر في اتجاه واحد نحو الجنوب في رعب غير محتمل. ولا يوجد أمان من القصف والقتل في كل مكان. وخلفنا بمسافة غير بعيدة في الطريق الذي سلكناه إلى الجنوب، قصفت الطائرات شاحنة محملة بالناس من أهل الشمال بالصواريخ، وخلّف القصف 70 شهيدا”.

وصلت أم محمد مع النازحين إلى إحدى قرى البدو في الجنوب لا تعرف فيها أحدا، وليس لها أقارب أو أصدقاء يمكن النزول عليهم ضيوفا. استقرت مع أطفالها في الخلاء في وضع مُزرٍ دون ماء أو طعام أو كهرباء أو مستشفى. ولا توجد دورات مياه، ولا إيواء ولا محال للبقالة. وشبكة الإنترنت مقطوعة، تقول “لا أستطيع التواصل مع زوجي ولا أهلي حتى أطمئنهم عليَّ وعلى أطفالي، وأطمئن عليهم ماذا صار معهم أو حل بهم”.

مدينة رفح الملاذ الأخير للنازحين

استقر المسير بأم محمد في أطراف مدينة رفح، في مكان موحش تواجه معاناة أطفالها مع غياب كامل لكل المقدرات الأساسية للحياة. تقول “الأولاد يسألون: ماما إيش بدنا نأكله؟ ماما، بدي أروح الحمام وفيش ميه. وأنا شو بدي أجاوبهم؟! لذلك فكرت أحمل أطفالي ونرجع إلى أنقاض بيتنا المهدم في الشمال، نموت فيه مع الناس هناك اللي تعرف إحنا مين، ولا أننا نموت هنا في الخلاء وإحنا مش عارفين أحد ولا أحد يعرفنا، ولكن كيف السبيل إلى الشمال؟!”.

بعد 137 يوما من العدوان على غزة، لحق بأم محمد في مدينة رفح نحو 1.5 مليون من سكان شمالي القطاع ووسطه، نزح بعضهم 6 مرات قبل أن يستقر بهم الحال في رفح. تقع مدينة رفح في أقصى جنوبي قطاع غزة، على الشريط الحدودي الفاصل بينها وبين مدينة رفح المصرية، التي مسحها الجيش المصري من الوجود قبل سنوات، وشبه جزيرة سيناء المصرية. وتُعَد أكبر مدن القطاع على الحدود المصرية، وتبلغ مساحتها 55 كيلومترا مربعا.

رفح اليوم هي أكبر بقعة في العالم مكتظة بالنازحين. ويعيش هؤلاء النازحون في ظروف مزرية، في مراكز إيواء مكتظة، وفي المدارس والشوارع، وفي الأرض الزراعية في العراء، محاطين بالسياج على الحدود المصرية الإسرائيلية والبحر الأبيض المتوسط، وجميعهم تحت القصف الإسرائيلي المتواصل.

تبييض السجون

رفح اليوم هي نقطة ضعف المقاومة الفلسطينية، فقد كان تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي أحد أهم أهداف عملية طوفان الأقصى الذي أعلنته كتائب القسام على لسان القائد العام للكتائب محمد الضيف في إعلانه الأول لبيان العملية بعد ساعات من انطلاقها، بالتوصل إلى حل جذري لقضية الأسرى من خلال صفقة تبادل تشمل الأسرى القدامى المحكومين بمحكوميات عالية، والأطفال والنساء والشباب والمعتقلين الإداريين.

وأكد الناطق العسكري باسم الكتائب أبو عبيدة أن عدد أسرى العدو الكبير لدى القسام ثمنه تبييض السجون من جميع الأسرى. وقال رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة يحيى السنوار، في نهاية الشهر الأول من الحرب، إن المقاومة جاهزة فورا لعقد صفقة تبادل تشمل الإفراج عن جميع الأسرى في سجون الاحتلال مقابل الإفراج عن جميع الأسرى لدى المقاومة.

وما زال هدف تبييض السجون مرفوعا من قِبل قيادة حماس، رغم سقوط 30 ألف شهيد. ومؤخرا، جددت الحركة مطالبها بتحرير الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل، ووقف الحرب على قطاع غزة، ودخول الإغاثة إلى القطاع، كشروط لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. وقال عضو المكتب السياسي لحماس خليل الحية إن إعادة أسرى الاحتلال لها ثلاثة أثمان، الأول إغاثة شعبنا وعودته إلى حياته الطبيعية، ثانيا وقف العدوان، ثالثا تبادل أسرى حقيقي يحرر أسرانا الـ10 آلاف في سجون الاحتلال.

قبل طوفان الأقصى، بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الإحتلال نحو 5300، بينهم النساء والأطفال والرجال، وأكثر من ألف محتجز على بند الاعتقال الإداري دون محاكمة أو توجيه ملف اتهام رسمي لهم. تمتلك المقاومة الفلسطينية ورقة ضغط تاريخية وغير قابلة للتعويض، وهي 130 أسيرا إسرائيليا، يمكن من خلالها تحقيق الهدف الاستراتيجي بتبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين، ولكن قد لا يتحقق الهدف دون مرور آلة القتل الإسرائيلي على مدينة رفح.

نتنياهو يستهدف اجتياح رفح

إذا وافق رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو على صفقة تبادل وفق الشروط الفلسطينية، فإنه سيخسر التحالف مع اليمين المتطرف، وربما ينتهي مستقبله السياسي ويدخل السجن، كما دخله رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت. في 17 فبراير/شباط الجاري، أعلن نتنياهو تعليق المفاوضات مع حماس، لأن طلبات حركة حماس “خيالية”، وأن على الجيش الإسرائيلي أن ينفذ عمليته في مدينة رفح التي تضيق بنحو 1.4 مليون فلسطيني في جنوبي قطاع غزة، لأن عدم قيامه بذلك يعني “خسارة الحرب” ضد حماس.

وفي اليوم التالي من تصريح نتنياهو، قال الوزير بمجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس “على العالم أن يعرف، وعلى قادة حماس أن يعلموا، أنه إذا لم يكن مختطفونا في منازلهم في رمضان فإن القتال سيستمر ويمتد إلى رفح أيضا. لأولئك الذين يقولون إن الثمن باهظ للغاية، أقول بوضوح: أمام حماس خيار، يمكنهم الاستسلام، وإطلاق سراح المختطفين، وبذلك سيتمكن سكان غزة من الاحتفال بشهر رمضان”.

قد لا يكون من المنطقي أن تصدر تلك التصريحات من الذين تلقوا ضربة مدوية على القفا في السابع من أكتوبر، وقد تكون تهديدات كلامية لتحسين شروط التفاوض، ولكن ما الذي يمنع نتنياهو من اجتياح رفح وارتكاب مجازر جديدة لإرضاء ناخبيه المتعطشين للانتقام من هزيمة لم يعيشوها من قبل؟! لا سيما أنه يضمن ألا تُلحق حماس الأذى أو سوء المعاملة بالأسرى الإسرائيليين، الذين يُتوقع أن يكون جلهم في شمالي القطاع بعيدا عن عمليات رفح المنتظرة، وأن المقاومة أحرص على حياتهم منه، لتحقيق هدف تبييض السجون.

تخاذل دولي تجاه رفح

قبل أيام، قدّمت حكومة جنوب إفريقيا طلبا جديدا إلى محكمة العدل الدولية للنظر فيما إذا كانت خطة إسرائيل المعلنة لتوسيع هجومها في غزة إلى مدينة رفح تتطلب إجراءات طارئة إضافية لحماية حقوق الفلسطينيين المدنيين، لكن المحكمة رفضت الطلب، واكتفت بمطالبة إسرائيل باحترام الإجراءات التي سبق أن أعلنتها المحكمة.

وقالت المحكمة إن هذا الوضع المقلق يتطلب التنفيذ الفوري والفعلي للإجراءات التي صدرت عن المحكمة في قرارها المؤرخ في 26 يناير/كانون الثاني 2024، والتي يشمل تنفيذها في كل أنحاء قطاع غزة بما فيها رفح، بحيث لا يستدعي (الأمر) إعلان إجراءات إضافية، وهذه الإجراءات هي توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية.

وكانت رئيسة المحكمة القاضية جوان دونوغو قد قالت في الحكم “يجب على إسرائيل، وفقا لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، أن تتخذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية”.

ذلك أن المادة الثانية من الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية بأي من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:

(أ) قتل أعضاء من الجماعة.

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

(ج) إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.

(د) فرض تدابير تستهدف منع إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

(هـ) نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.

ورغم أن المحكمة قد وقع في روعها أن جريمة الإبادة الجماعية قد ارتكبتها إسرائيل خلال العدوان، وبالتالي انتهكت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، فإنها لم تأمر إسرائيل صراحة بوقف إطلاق النار مثلما فعلت عام 2022 في التدابير الاحترازية في القضية التي رفعتها أوكرانيا ضد روسيا وتتهمها فيها بممارسة الإبادة الجماعية.

العالم كله يطالب بمنع اجتياح رفح، بمن فيه مُدّعو الإنسانية، لكن ذلك العالم نفسه ينتظر بمسكنات محكمة العدل الدولية، جريمة قتل جماعية في رفح، ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية على نحو ما حصل في كل مدن قطاع غزة، وها هي تدمر مستشفيات رفح في الجنوب كما دمرت مستشفى الشفاء في الشمال. ونقلت وكالة رويترز عن مسؤولين إسرائيليين وإقليميين قولهم إن إسرائيل تتوقع مواصلة العمليات القتالية الواسعة النطاق في قطاع غزة من 6 إلى 8 أسابيع أخرى، في إطار استعدادها لشن هجوم بري في مدينة رفح المكتظة بالنازحين جنوبي القطاع.

المصدر : الجزيرة مباشر