ليتها كانت عاصمة صناعية!

مشهد من الجو للعاصمة الإدارية المصرية الجديدة صُوّر في 11 سبتمبر 2023 (الأناضول)

ذهبت إلى العاصمة الإدارية الجديدة للمرة الأولى قبل أيام، وسبق أن جاءتني دعوات كثيرة من شركات عقارية لزيارة مشروعاتها في العاصمة، والهدف تسويق الوحدات السكنية فيها، وكانت عندي رغبة في الذهاب لمشاهدة المشروع الذي يجري التعامل معه بضجيج هائل ويعتبرونه الجمهورية الجديدة، لكن كان يعتريني فتور اتجاه مشروع العاصمة، فلم أكن متحمسًا لبناء عاصمة جديدة في هذه المرحلة المليئة بالصعاب والأشواك والمطبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومنذ أن بدأ تشييد هذه العاصمة في 2016 ورأيي الشخصي السلبي اتجاهها يتزايد، فما أكثر المدن الجديدة في مصر، وما أسهل البناء في أي مكان فيها، فالاستثمار الفعال في حالتنا ليس في المباني الصماء حتى لو سكنها بشر بعد ذلك ودبت في أوصالها الحياة، لكن التحدي والنجاح الحقيقي هو في مشروعات التنمية المنتجة التي تدفع بالدولة إلى احتلال أماكن متقدمة وسط البلدان الصناعية والزراعية، ومرافقة البلدان المتطورة في مؤشرات التنمية البشرية، واللحاق بالبلدان التي حسمت معالجة الخلل والتخلف لديها في مختلف المناطق والجهات التي يقطنها الناس منذ قرون.

كيان بلا ضرورة الآن

ما أسهل بناء دول على طريقة السلطة الحالية إذا كان ذلك يتم من خلال إقامة عاصمة جديدة، فهل تم بالفعل إنشاء وتأسيس الجمهورية الجديدة عوضًا عن الجمهورية القديمة لمجرد أنه صار هناك بناء آخر قريب من القاهرة العاصمة القديمة العتيدة العريقة لمصر الدولة التي تضرب جذورها في عمق الأرض والتاريخ والوجود؟ وهل أصبح لدينا جمهورية جديدة لمجرد أنه جرى في العاصمة التي لم يسكنها أحد بعد ولا تزال مباني ومنشآت بلا روح أداء القسم لرئاسة جديدة في مبنى مجلس النواب الجديد في هذه العاصمة؟

لا أظن ذلك؛ لأنني ذهبت إليها وتجولت فيها وعدت منها باقتناع بأنه لم يكن هناك ضرورة لهذا الكيان الآن، واطمأننت إلى أن رأيي السلبي المبكر عنها لم يكن رأي هوى ولا مجرد صوت مخالف من أجل المخالفة، ولكنه فهم وإدراك للأولويات ثبت لي أنه كان جادًّا لمّا تبين أن مسارات السلطة في المشروعات اندفاعية وتوسعية دون خطط واقعية وأنها أقرب إلى استنفاد سريع للطاقات والقدرات والموارد دون حساب للقادم المجهول ودون تقدير دقيق للظروف الطارئة المفاجئة والأوضاع الإقليمية والدولية التي قد تكون معاكسة.

تحديات داخلية وخارجية

وبالفعل حدث ما لم يكن -ربما- في حسبان السلطة بدرجة كبيرة، فالعالم ارتبك وتأزم بفعل فيروس كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وقبل هذين الحدثين كانت هناك بوادر ركود عالمي في التجارة الدولية، وأضف إلى ذلك تحديات مصرية داخلية كثيرة وكبيرة، وهناك في الجوار حروب أهلية وانقسامات في ليبيا والسودان، وحرب إبادة شرقًا في غزة يشنها الكيان الصهيوني الذي أثبت مجددًا أن التعايش معه شبه مستحيل بسبب عدوانيته ودمويته التي لا بديل لها عنده، وأن السلام ومبادرات السلام والدعوات إلى السلام والتطبيع هي محض أكاذيب وهراء.

وأنا لست ممن يُلقي بكل الأزمات على مشاجب التحديات والأزمات الدولية والإقليمية والظروف الطارئة والمباغتة.

نعم هي تؤثر، ولكن ليست وحدها المسؤولة عن التعثر، وإنما السياسات العامة، ونمط الحكم، وغياب الرأي الآخر، أسباب مهمة فيما آلت إليه الأوضاع من تأزم شامل يهيمن على كل المجالات والقطاعات حتى على الناس وعلاقات بعضهم ببعض واهتزاز منظومة القيم والأخلاق لديهم.

عقول ومصانع ومزارع

هذه العاصمة التي يعتبرون أن حفل التنصيب الرئاسي فيها هو الافتتاح الرسمي لها، هي واحدة من مشروعات عديدة لم يكن هناك لزوم لها في هذه الفترة، وربما في فترات تالية، وقد سبق أن رفضها مبارك. بل كان لازمًا ملء الصحراء بالمصانع والمزارع، وبناء العقول، وإتاحة حرية الرأي والفكر والبحث العلمي والتعليم والصحة، فلا تنمية ولا صعود في سلم الحضارة والاقتراب من الدول التي تسود العالم إلا بما تقدمه للعالم من منتجات وسلع وأفكار واختراعات وابتكارات وثقافة وعلوم ونظم حكم رشيدة، وهذا لا يكون إلا بالتصنيع وتخضير الأرض بالمحاصيل والسياسة الحرة المتاحة للجميع دون قيود؛ فتعصم البلاد نفسها من الأزمات ومد الأيدي للحصول على احتياجاتها من الخارج بعملات صعبة غير متوفرة لديها فتواجه أزمات إضافية، وتكون قادرة على تصدير وبيع الفائض فتجني أرباحًا ونقدًا أجنبيًّا تؤمن به نفسها وتصير حياة مواطنيها يسيرة وكل احتياجاتهم متوفرة وفي متناول فقيرهم قبل غنيهم.

ما كان موجودًا من أموال في الخزينة العامة وما جاء من الأشقاء من مساعدات وودائع وما تم اقتراضه وما يجري تحصيله من ضرائب ورسوم بأرقام ضخمة جدًّا وما يتم توفيره من تقليص بنود الدعم، كل هذا وغيره تم إنفاقه في مشروعات كثيرة لم تكن منتجة ولم تجذب استثمارات خارجية جيدة، وبالتالي واجهت البلاد أزمة عاصفة غيرت طبيعة الحياة وقلبت الأوضاع الاجتماعية من القدرة على قبولها وتحملها والعيش معها إلى لهيب حارق من الغلاء.

إصلاح الجمهورية القديمة أولى

ماذا لو كان جزء كبير من بنود التنمية في المباني والجسور الكثيرة والأبراج والأعلى والأكبر والأضخم والأطول قد تأجل سنوات حتى يتم إصلاح الجمهورية القديمة الأصلية والأصيلة، وهي الأبقى والأسهل في علاج مشاكلها وأمراضها؟ المؤكد أن هذا الطريق كان أكثر أمانًا وأن الأزمات لم تكن لتتزايد وتتعقد، بل ستتراجع ولو بوتيرة محدودة.

ولا يعني توفر دفعات من النقد الأجنبي اليوم أن الأزمة انتهت إلى غير رجعة، فهي أموال ناتجة عن مشاركة أرض في مشروع سياحي لفئات خاصة، وقروض جديدة، وليست أموالا من فوائض إنتاج وصادرات ومداخيل مضمونة.

ذهبت إلى العاصمة وعدت وأنا أقول ليتها كانت عاصمة صناعية تعلو مداخنها إلى السماء، ويحيط بها الاخضرار، ساعتها كنت سأصفق كثيرًا، وأكتب مرحّبًا بشدة.

المصدر : الجزيرة مباشر