غزة.. صامدون عائدون باقون

فلسطينيون أمام مخبز في غزة وسط الغارات الجوية الإسرائيلية
فلسطينيون أمام مخبز في غزة وسط الغارات الجوية الإسرائيلية (الفرنسية)

(يا تلاميذ غزة)

يا فتيات غزة

يا شباب غزة

يا رجال غزة

يا نساء غزة

يا شيوخ غزة ونساءها

(علّمونا

علّمونا بأن نكون رجالا

فلدينا الرجال صاروا عجينا)

عادت الحياة إلى شمال غزة، إلى خان يونس، افتتح أهل غزة مخبزهم لأول مرة في شمال غزة، هذا المكان الذي تعرّض للقصف والتدمير الذي لن تشهده أي مدينة في العالم على مدار التاريخ، المدينة التي تعرضت لما يتفوق على العشرات من القنابل الذرية، تلك التي دمرت اليابان في منتصف أربعينيات القرن العشرين.

عشرات القنابل ولم تكن قنبلة واحدة أو اثنتين، ومع ذلك لم يترك أهل غزة المدينة الوطن، المدينة التي تحرر وطنا كاملا.

غزة الوطن المحرر في جغرافيا ساكنة مستسلمة تعود إلى الحياة وكأنها لم تحارب وتقاوم ولا تزال.

عادت إلى غزة وشمالها الذين أرادوا له أن يكون مقبرة للمقاومة فصار فخهم اللعين، يحاول رئيس وزراء الكيان الغاصب الهروب منه مرة بإشعال الحرب على جبهة إيران، أو توسيع الإبادة إلى الضفة الغربية والقدس، ومرة بتوريط آخرين في وحل الهزيمة.

لكن كل أبناء غزة يعلّمون العالم كيف تكون الأوطان، كيف البهجة في البقاء والسعي إلى النصر الذي حققوه على أقوى جيوش العالم، تلك الجيوش التي يرتعب من اسمها بلدان وجيوش ورؤساء وحكومات، أبناء غزة ينتصرون بل إنهم انتصروا منذ زمن بعيد، انتصروا بالصمود، انتصروا بالقضية التي حملوها في القلب والوجدان، انتصروا للعدل، رفع الظلم، وانتصروا للأرض، أي شعب هذا الذي يسكن في أرض فلسطين، لقد كان فؤاد حداد شاعر العامية المصري محقا حين وصفه بأنه

شريان فلسطيني

شجر مزروع

في الأرض جذر

في الليالي فروع

نعم إنهم الشجر المزروع الذي يمتد جذرا لا يُقتلع من أرضه، إنهم فروع الشجر التي أثمرت العقيدة والإيمان، ما أروع شعب فلسطين وهو يملأ الأسواق في شمال غزة بالفاكهة والخضروات، ولكن أي فاكهة تلك وأي خضروات؟ إنها فاكهة جنة الله على أرضه فلسطين، إنها خضروات غزة التي تجعل لحياتنا معنى.

إنهم الصامدون بقوة القضية التى نبتت في الوجدان والقلب، هل نجد كلمات نقولها لأبناء غزة بعد 198 يوما من مواجهة آلة الحرب الصهيونية الأمريكية؟ لا بل إنهم يقدّمون لنا دروس الوطن، أن تستشهد مرفوع الهامة، وأن تعيش السعادة وأنت تقاوم، شعب لا يقدّم لنا سوى الدرس الذي يعيد إلى الوطن بهاء فقده منذ أن بدأت عقود المذلة والهوان.

إنهم العائدون من زمن الفتوحات، الباقون من عظمة التاريخ والحضارة العربية التي اتسعت في العالم، انظروا كيف يعلّمون العالم ويُخرجون الفكرة الإسلامية العربية من مدفنها الذي زجوها فيه لتتلألأ أمام عيون الناظرين في العالم، وكيف أصبحت فلسطين قضية الأحرار.

القرآن والإسلام كيف صار عنوانا لصمود وبطولة المؤمنين به، فعاد العالم يبحث في قضاياه وروحه وقيمه ليكون بوابة إيمانهم، كان النهر الذي فتح مجرى المحبة ينبع من غزة من أطفالها وشبابها ورجالها، وسيدات نساء العالم في غزة وفلسطين، هؤلاء اللواتي صنعن كعك العيد وبهجته في كل مكان حط به نازحون في خيام، أو فوق بقايا الهجمة البربرية الصهيونية الأمريكية على أطلال منازلهم التي هُدمت.

على الشواطئ والحرب دائرة

يتعجب أحد وزراء الكيان الصهيوني من هذا الشعب الذي يترك الحرب الدائرة عليه ويذهب إلى شواطئ غزة ليستمتع بالعيد، إنهم كما قال لي أحدهم “نحب الحياة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا” كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وفي ذاته نحيي سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بفرحة عيد الفطر المبارك.

لا غريب في تعجب وزير الكيان، فهم لا يعرفون معنى الوطن، فأي رسالة يمكن أن تقدم لشعب وُصف بالجبارين؟ نعم جبروت التمسك بالأرض، جبروت التمسك بالحياة والرسالة، واليقين والإيمان بالنصر القادم لا محالة، فقد عاد الآلاف في مشهد تقشعر له الأبدان إلى شمال غزة عقب انسحاب جيش الاحتلال.

هذا المشهد الذي وقف العالم أمامه مذهولا، لماذا يعود الإنسان إلى مكان قد يكون الموت مصيره فيه؟ هل يمكن أن نقول لأهل غزة كلمات أو رسائل؟ لا إنهم من يقدّمون لنا الرسائل نحن الذين نخذلهم وهم ينتصرون لنا، نحن الكسالى وهم من يعلّمون الصمود والبسالة، نحن الذين نبرر لهم العجز، فإذا بهم يعلمونا الشجاعة والإيمان الحق.

باقون

باقون رغم الحرب، رغم الدمار، الاستشهاد، باقون لأننا خُلقنا لنبقى ونحيا معمرين للحياة والأرض، تبقى مفاتيح منازلنا فقط الناجية من التدمير، نحتفظ بها لنعود نبني ونضع الأبواب والأقفال لتبقى مفاتيحها دليل الملكية للبيت والأرض، باقون ما بقي الزعتر والزيتون، ما بقيت أحجار فلسطين، ونباتها وأشجارها، وجمالها الذي لا يُضاهى، تبقى فلسطين ويبقى شعبها في القدس والخليل وحيفا وعكا، ما بقيت أرضها تُنبت الجمال، وتُنبت الأبطال الذين خاطبهم نزار قباني في الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) عام 1987

لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا

اضربوا.. اضربوا بكل قواكم

واحزموا أمركم ولا تسألونا

نحن أهل الحساب والجمع والطرح

فخوضوا حروبكم واتركونا

نحن موتى لا يملكون ضريحا

ويتامى لا يملكون عيونا

وها هم تلاميذ مدارس غزة صاروا أبطالا لا يعيقهم موت ولا استشهاد، لا تجعلهم آلات الحرب والتدمير ينسون ارتداء قميص الزمالك المصري احتفاء بفوزه، وهم يقاومون ويطلقون قذائف الرعب في قلوب العدو مغتصب الأرض.

يقول صديقي الطبيب الفلسطيني العروبي ابن غزة “كأننا عشرون مستحيل في اللد والرملة والجليل، هنا على صدوركم باقون كالجدار، وفي حلوقكم كقطعة الزجاج كالصبار، وفي عيونكم زوبعة من نار.. نحن الفلسطينيون”.

وكان صديقي يعاتب فرحتنا بما فعلته الضربة الإيرانية على الكيان الصهيوني فجر الأحد الماضي “يا صديقي نحن لا سعي لنا إلا فلسطين، لا حب لنا إلا القدس وغزة وحيفا والجليل وعكا والضفة، عيوننا لا ترى سواها، قلوبنا لا تعشق إلا أبناءها وشبابها وأبطالها”.

في كل ما يحدث لا نرى إلا ما يقربنا من المسجد الأقصى وبيت المقدس، لا نرى إلا أسوار عكا، وبيوت حيفا، فلسطين هي المدى والمرتجى، نحن أبناء هذا الوطن الذين رأوه أطفالا وغنوا “ولا في قلبي ولا عنيّه إلا فلسطين.. أنا العطشان ما ليش ميّه إلا فلسطين” وعيوننا إليكم ترحل كل يوم لنتعلم منكم أن الوطن قضية، والإيمان رسالة، والعالم بكم عالم آخر جديد على أمة تنتطر منكم عهدا وفتحا جديدا.

ملاحظة: المقطع الشعري بين الأقواس للشاعر نزار قباني من قصيدته “تلاميذ غزة”.

المصدر : الجزيرة مباشر