الأمر الواقع.. بين القبول به والتمرد عليه

ضباط شرطة نيويورك يحتجزون متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين يتظاهرون داخل مبنى جامعة فوردهام (رويترز)

(1) بقاء الحال من المحال

الأمر الواقع يعرف بأنه الوضع الحالي، وهو نتاج تمرد علي الوضع السابق، والحضارة الإنسانية تطورت إلي ما وصلنا إليه بسبب التغيير المستمرفي الأوضاع السائدة لصالح أوضاع جديدة أفضل، والتغيير يكون نتاج فكر مصلحين أو ثورات شعبية أو انقلابات عسكرية أوتمرد فئات في المجتمع لديها قدرة علي التأثير ولديها قوة تساندها.

الرسل في حقيقة الأمر هم ثائرون على أوضاع  مجتمعاتهم التي تتفشى فيها الرذائل والتشوهات الأخلاقية، والرسالات السماوية التي كانوا أمناء علي تبليغها هي رسائل إرشادية من رب العالمين لحث الناس وتحفيزهم على تغيير واقعهم لما فيه خير لهم.

وهناك نوعان من الناس يدافعان عن الأمر الواقع أولهما: المنتفعون به والثاني: الخائفون من التغيير من الذين يفضلون الاستقرار ولو كان جمود وهشاشة.

المدهش أن غالبا ما تكون الفئة التي تمردت على الأمر الواقع وغيرته، هي التي تتمسك بالوضع الجديد وترفض أن يتغير لغير صالحها، وهذا الأمر يمكن مراقبته والتأكد من صحته فيما يخص الفرد وكذلك الدول. علي سبيل المثال:أمريكا التي تمردت على بريطانيا العظمي وحاربتها لتستقل عنها، هي نفسها التي تسعي الآن لترسيخ قيادتها المنفردة للعالم وترفض أن يشاركها في ذلك قوى لا تنصاع  لتعليماتها وتعرقل مصالحها.

ومؤخرا صرح الرئيس الأمريكي: “أن العالم سيفقد قائده إذا انسحبت الولايات المتحدة من المسرح العالمي”، وكأن العالم بدون أمريكا سيضل الطريق!! لكن لوحدث وتغير الأمر لصالح روسيا أو الصين مثلا فستسعي هذه الدول لتثبيت هذا الأمر الواقع  لصالحها، وستأتي دول أخرى تسعي لتغيير هذا الواقع وهكذا دواليك.

  (2) التمرد علي الأمر الواقع

في شهر نوفمبر من العام الماضى وبعد 47 يوما من بداية عملية طوفان الأقصى توصلت حماس وإسرائيل إلى اتفاق هدنة مؤقنة بوساطة مصرية – قطرية، هدنة أربعة أيام تم خلالها وقف العمليات العسكرية بين الطرفين والإفراج عن محتجزين لدي الجانبين وإدخال المزيد من شاحنات المساعدات للقطاع، حينها كان هناك حالة من التفاؤل بشأن الوصول إلى  وقف دائم لإطلاق النار والبدء في مفاوضات تشمل حل الدولتين لتحقيق سلام دائم ومستقر بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين بكافة فصائلهم، لكن سرعان ما غاب هذا الأمل واشتدت الحرب ضراوة من جانب إسرائيل وتحولت إلى مجزرة، والآن وبعد مضي أكثر من مئتي يوم علي بدء الحرب، يعجز الوسطاء عن الوصول إلى اتفاق يحقق الهدنة بين الطرفين، فلماذا تتعثر المفاوضات بين حماس وإسرائيل؟

أعتقد أن ذلك يعود لعدة نقاط: أمريكا هي الوسيط والراعي الأهم في المفاوضات وهي طرف غير محايد، منحاز لإسرائيل ولا يسع لحل عادل لكن المهم بالنسبة له أمن إسرائيل ولو كان ذلك على حساب حياة الفلسطينيين، المفاوضات تمتزج فيها الحسابات الاستراتيجية والمشاعر السلبية كالرغبة في الانتقام والكراهية المتبادلة وهو ما يعرقل بناء الثقة بين حماس وإسرائيل والشكوك والمخاوف تعرقل دوما اتخاذ قرارات جريئة، وأخيرا تتفاوض إسرائيل من منطلق القوة والتفوق، وهو ما يجعلها تظن أن على الطرف الأضعف في المعادلة وهو “حماس” الموافقة على ما تطرحه لأن الأمر الواقع يصب في صالحها، لكن عملية طوفان الأقصى تمرد على الأمر الواقع ومحاولة من المقاومة الفلسطينية لتغييره بكسر الحصارعلي الشعب الفلسطيني في غزة وحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، تغيير الواقع فيه خطر وجودي على إسرائيل لكنه بدأ بالفعل رغما عنها.

(3) حين يضيق الواقع بالوقائع لابد من تغييره

المظاهرات والاعتصامات الطلابية في أمريكا ظاهرة تستدعي التوقف عندها وتحليلها، وهي تذكرنا بمظاهرات الطلاب في فرنسا التي اندلعت في ستينات القرن الماضي، والتي كانت تمرد على النزعة الاستهلاكية المادية التي توسعت بعد الحرب العالمية الثانية كما كانت رفضا علنيا لحرب فيتنام وانضم لها حينذاك الملايين من العمال الفرنسيين الذين كانوا يشعرون بالظلم ويسعون لتحسين أوضاعهم، كما كان لها صدى وتداعيات في جميع أنحاء العالم.

العالم يشهد الآن وعلي الهواء مباشرة مسلسل إبادة الفلسطينيين في غزة التي تلعب فيه إسرائيل دور”النازية”، وأيضا يراقب تخاذل وضعف المجتمع الدولي وعدم قدرته على حماية الفلسطينيين وإجبار إسرائيل علي وقف الحرب التى تدعمها أمريكا والغرب. اختار طلبة عدد من الجامعات الأمريكية المرموقة أن يكونوا ضمير العالم وجرس الإنذار الذى ينبهنا إلى الخلل في النظام العالمي الحالي الذى تنفرد بلدهم بإدارته.

هؤلاء الطلبة لديهم وعي بالأمر الواقع وهو انحياز النخبة السياسة والإعلامية الأمريكية لإسرائيل بسبب قوة تأثير اللوبي الصهيوني، لكنهم يدركون  أنهم يملكون بعضا من أدوات تغيير هذا الواقع الردىء والقبيح، بالضغط على إدارة جامعاتهم لقطع علاقاتها المالية بإسرائيل من ناحية، والتأثيرعلي الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة بعد شهور قليلة برفع وعي الشعب الأمريكي بالقضية الفلسطينية وإجبار الإدارة الأمريكية علي تعديل مواقفها المنحازة لدولة الاحتلال الصهيوني.

الإنسان كائن اجتماعي وثورة الاتصالات جعلت العالم قرية صغيرة، فما يحدث في أمريكا يتأثر به الناس في أرجاء المعمورة، وهناك بالفعل تجاوب مع المظاهرات الطلابية الأمريكية في عدد من البلدان الغربية، وفكرة تصدي الفئات الواعية في المجتمعات للواقع الفاسد وغير العادل ومحاولة تغييره تنتشر، ومؤخرا أعلن ناشطون وسياسيون فرنسيون عن إطلاق تنظيم جديد باسم “مجلس الأحياء الشعبية”، يهدف إلى جمع أبناء أحياء الطبقة العاملة في فرنسا تحت مظلة واحدة، لمكافحة خطاب اليمين العنصري والإسلاموفوبيا والخطاب الاستعماري المتعالي وعنف الشرطة ودعم حقوق الشعب الفلسطيني وكرامة الطبقة العاملة في فرنسا. أثر الفراشة يتحقق…

الاستسلام للأمر الواقع السيىء ليس مرادفا للأمن والاستقرار والتنمية كما يروج له الفاسدون المستفيدون منه، لكن علينا إن أردنا تغيير الأمر الواقع  أن نمتلك الإرادة والشجاعة  والجرأة أولا ثم أدوات التغيير سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي أوالدولي.

المصدر : الجزيرة مباشر