يونس إمره (2) الاحتراق والالتقاء

جنازة أبناء القائد الفلسطيني إسماعيل هنية (الأناضول)

هذه الرحلة الصعبة المرهقة التي يمر بها الإنسان في مراحل الحياة ليصل إلى السكينة التي تفاجئ من يحيطون به ليست سهلة، حينما تصل النفس البشرية إلى حالة الطمأنينة لما حولها يسميها أهل التصوف مرحلة النفس الراضية المطمئنة، وتلك قمة الإيمان والعقيدة لدى النفس.

وقد تابعنا تلك اللحظة خلال الأيام الماضية في شخصيتين من أرض المقاومة والفداء غزة، شاهدنا جميعا كيف تلقى إسماعيل هنية فاجعة استشهاد ثلاثة من أبنائه وأربعة أحفاد جراء عمل خسيس من الكيان الصهيوني، فتلقى الخبر في صبر وصمود لا يأتي إلا من قلوب وصلت إلى حالة الطمأننية والسكينة التي لا يصل إليها إلا قليل.

فاجأنا مشهد زوجة الابن الأكبر الشهيد حازم إسماعيل هنية وأم ابنتين شهيدتين في عمر الزهور بهذه القوة والصبر والطمأنينة، تلك الطمأنينة والنفس الراضية التي تلاحقنا مشاهدها يوميا من أرض الرباط والعقيدة في فلسطين، وتتمثل في الأمهات والآباء والزوجات، ما هؤلاء البشر؟ كيف وصلوا إلى تلك الحالة، إنها رحلة طويلة من احتراق النفس واختباراتها المؤلمة لتصل إلى السكينة التي يهبها الله جل علاه لأصفيائه من البشر، لا أدري لماذا اختلط عليَّ الواقع بخيال التاريخ الذي أشاهده في العمل الدرامي التركي “يونس إمره”، وقد كنت أحضّر لكتابة المقال الثاني عنه بالعنوان أعلاه.

اختبارات صعبة ومحن قاسية

لم تكن رحلة يونس بن عبد الله قاضي مقاطعة ناليهان بدولة السلاجقة في مرحلة النفس اللوامة سهلة، ولم تكن اختباراته بسيطة، فالرجل عانى على يد شيخه تابتوك إيمره الكثير ليطوع له نفسه، تصارعت بداخله أحلام كبيرة، وكانت كل مرحلة لاحتراق ذاته تمر بصعوبة، لم يحتمل أن يكون منظفا للخان، مصاحبا للكلب ومتخصصا في إطعامه، أو حطابا يقوم بجمع الحطب من الجبال لأهل التكية، هرب يونس مرة إلى وظيفته الأولى قاضيا ولم يستطع البعد، عاد ثم هرب مرة أخرى فعمل مزارعا وعاد منها أيضا إلى بوابة شيخه تابتوك إيمره.

علاقة الرجلين فيها من المحبة والاحترام الكثير، تابتوك استشف فيه الصفاء وهوى البحث عن الحقيقة الكونية، فصنعه الشيخ على يده وأورده الاختبارات التى تطهر قلبه وتصطفيه من عبث الدنيا وحبها، ليصل إلى مرحلة النفس الملهمة، وهي مرحلة ما بعد النفس اللوامة في حياتنا الإنسانية، تلك المرحلة التي وصل إليها يونس بعد عوائق أو ابتلاءات كثيرة.

كان والي المقاطعة قد طلب من الشيخ إيمره أحد مريديه ليكون مستشارا له، فاختار له يونس القاضي ليضعه شيخه أمام وظيفة تعيده إلى مكانة افتقدها باستقالته من القضاء، وضع يونس أمام مكاسب سلطة، مال ونفوذ، بل عرض عليه الوالي أن يقيم له دارا مثل إيمره، أو يرشحه ليكون مستشارا للسلطان السلجوقي، أما الاختبار الأكبر فكان علاقة زوجة الوالي به، فقد أغرمت بيونس كثيرا، وفي مشاهد قدّمها العمل الدرامي أشبه بقصة النبي يوسف مع امرأة العزيز، لكن يونس وللمرة الثانية يترك كل هذا ويعود إلى دار تابتوك إيمره مريدا ودرويشا.

صراع داخل التكيّة

خان الشيخ تابتوك إيمره لم تكن دارا نقية يملؤها الحب، فالمريدون أو الدراويش بشر، فلم تخلُ من صراعات هؤلاء البشر وأنفسهم الأمّارة بالسوء، ومنذ بداية وصول يونس إلى دار شيخه وبداية الصراع الدرامي كان هناك الشخصية المقابلة له، قاسم أفندي ابن أخت الوالي، يُعَد ذراع الشيخ اليُمنى لكنه يطمع في أن يكون شيخا وله مريدون، فإن لم يرث مكانة صاحب الدار فليكن له دار ومريدون، نموذج لا يستريح لعلاقة الشيخ بالمريد القادم على ظهر حصان القضاء، يطمع في أن يتزوج ابنة الشيخ فيرث المكانة والمنزل، كراهيته ليونس واضحة، يتصيد له الكلمات ليصمه بالإلحاد.

كان الشيخ تابتوك إيمره راصدا لتلميذه وكاشفا لنفسه، وحاول كثيرا تعديل مساره، لكن لا تستطيع استقامة للمائل، ولن تستطع ميلا للمستقيم.

في الحلقات الثلاث الأخيرة من العمل الدرامي التركي (يونس إمره) ينتقل الكاتب إلى عام 1310 ميلادية حيث مرت 30 عاما على وفاة الشيخ تابتوك إيمره، وأصبح يونس شاعرا (درويشا) جوالا تُتداول أشعاره في كل ولايات الدولة السلجوقية، ويصاحب عثمان بن أرطغرل في تأسيس دولته، بينما أصبح قاسم شيخا صاحب خان وله مريدون في ناليهان، ويأتيه مريدون من خارجها، ويستخدم المخرج أسلوب العودة إلى الوراء ليكمل باقي قصة يونس إمره.

يعود قاسم من رحلة حج استمرت أربع سنوات، ومنذ اللحظة الأولى يُظهر لنا المخرج من خلال عصي قاسم الذهبية، والخواتم الذهبية في يده، وتقبيل الأهالي ليده بدون أن يسحبها، نوعا مختلفا من الشيوخ، وقد ظهر ذلك في مشاهد عديدة، حين يعرض الوالي الجديد أن يعفي ممتلكات التكيّة من الضرائب فيقبل، وهو ما رفضه شيخه من قبل، يعرض تاجر التبرع بمحال للتكيّة فيقبلها الشيخ قاسم، يضع مريديه في دوائر القضاء، يتزين بالحياة وللحياة، هكذا يضع المؤلف والمخرج الفروق بين شيوخ السلطة ورجال الدين الحقيقيين.

نهاية الرحلة

أثناء العودة يسمع قاسم أشعارا ليونس فيصفها بالإلحاد، ثم يذهب إلى دار تابتوك إيمره ليجدها قد أصبحت أطلالا، الزمن مر ولم يبق من المكان إلا بقايا البشر، هكذا نحن مع أماكننا جميعا، وبموسيقى الناي الممثل لصوت موسيقى الصوفية تُعزف موسيقى احتراق النفس البشرية ونقائها، يتجول الشيخ الجديد فيجد أوراقا تحكي ما حدث فيها منذ رحيله كان قد كتبها تلاميذ الشيخ إيمره، وتتضمن تلك الأوراق أشعار يونس إمره تلميذ الشيخ النجيب وزوج ابنته.

لم تكن أيام يونس بعد ذهاب قاسم لبناء تكيته كلها سهلة، فيونس بعده بقليل وضعه الشيخ في اختبار جديد، إذ طرده من الدار لأنه لا يتقدم في رحلته، خرج يونس من دار إيمره ليتجول في الجبال وبين السهول والأنهار، لعل شيخه أراده أن يجد ذاته، ويحترق ليكون فيما بعد يونس الشاعر المتصوف لسان حال العشق الإلهي، ويعود يونس بعد سنوات وقد وصلت روحه إلى صفاء النفس الملهمة ثم ينطق الشعر الصوفي، ويصل إلى مرحلة النفس المرضية المطمئنة.

يستقبله شيخه ويقول له “لقد أخذناك في رحلة من النفس الأمّارة بالسوء إلى النفس اللوامة، ثم النفس الملهمة فالراضية ثم المطمئنة، لتصبح كلماتك وأشعارك لسان حالنا، ونبض الإيمان والعقيدة”

من زاوية قلبي الوحيدة ينير الأفق بأشعته المتلألئة

كيف يمكن لعصير الألم سوى أشعة النور لتنبعث من ذات الخلية؟

المصدر : الجزيرة مباشر