جدلية الحكام والشعوب في الأنظمة المتردية

مدينة القدس

على غرار السفسطة التاريخية “الدجاجة أولًا أم البيضة؟”، أتابع في الشارع المصري هذه الأيام سجالًا عقيمًا، حول ما إذا كان “الناس على دين ملوكهم”، أم أن الصحيح “كما تكونون يولّى عليكم”، وذلك في إطار الجدل الدائر طوال الوقت حول هذه الحالة من الخنوع والخضوع، أو ربما البلادة، التي أصبحت تنتاب الشارع العربي عمومًا، حتى في أحلك لحظاته المصيرية المشتعلة، بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، بدعم أمريكي غربي، منقطع النظير، لا يخفي غايته، ونفاق دولي، لا يسمن ولا يغني من جوع.

الأمر الطبيعي هو أن لكل فريق حجته، ذلك أن هذه الحالة الجماهيرية البائسة، يرى الفريق الأول أنها نتاج مخططات خارجية في معظم الأحيان، وداخلية في بعض الأحيان، نابعة من منظومة دكتاتورية، هنا أو هناك، وهي التي أنتجت هذه النوعية من البشر، الذين استكانوا أمام أي أنباء من أي نوع، سواء تعلقت برفع أسعار، أو بفرض مزيد من الجبايات والضرائب، أو حتى بتنازل عن أرض أو عرض، إلى أن نصل في نهاية الأمر إلى التنازل عن الثوابت التاريخية، كما هو الحال في حرب الإبادة على غزة، التي لم ينتفض لها العرق العربي من المحيط إلى الخليج إلا ما ندر، وهي سابقة سوف يتوقف أمامها المؤرخون والمحللون طويلًا.

على الجانب الآخر، يرى أصحاب الرؤية المقابلة، أن الحاكم ما هو إلا نتاج المحكومين “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”؛ وبالتالي فإن الرعية إذا صلحت صلح الحاكم، على اعتبار أنه في كل الأحوال جاء من رحم الشعب، حتى لو كان بغير الطريق الديمقراطي، وهذه الرؤية بهذا الشكل تُحَمّل الشعوب مسؤولية كل الكوارث والقرارات المخطئة المدمرة للأمم على مدار التاريخ، باعتبار أنها لم تكن أممًا صالحة؛ ولذلك كان الرأس على المستوى نفسه من الفساد، أو حتى الجهل، وربما العمالة والخيانة.

لكن العامل المشترك بين الرؤيتين، يتمثل في أن أدوات الحاكم واحدة في الحالتين، سواء كان وجوده نتاجًا خارجيًّا معد مسبقًا، أو نتاجًا للحالة الشعبية، وهذه الأدوات تتمثل في منظومتين رئيسيتين، إعلامية وأمنية، بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعد ذلك العديد من الفروع، ومن بينها السيطرة على المؤسسات الدينية والتشريعية والعسكرية، وحتى السياسية، ممثلة في الأحزاب، وقوى النخبة المختلفة، في إطار حالة شاملة من التغييب، تبدأ بالعملية التعليمية بكل مراحلها.

سرّ الانبطاح الرسمي

الشاهد في الأمر، هو أن الجماهير اتجهت الآن للتنقيب في سرّ هذه الأوضاع الغريبة التي يمر بها العالم العربي، سرّ هذا الانبطاح الرسمي والغفلة الشعبية في آن واحد، أسباب ذلك التخلي الواضح عن القضية الفلسطينية تحديدًا، عن القدس والأقصى، عن الأشقاء، عن الإنسانية والأخلاق، هل كانت سياسات الحكام هي السبب؟ وهو ما يؤكد نظرية أن “الناس على دين ملوكهم”، وهي النظرية التي يتسلح بها أصحاب نظرية فساد الشعوب من فساد الحاكم، أم أن قصور وتقصير الرعية هو الأصل في الموضوع، وهو ما يؤكد قاعدة “كما تكونون يولّى عليكم”، وهو ما تؤكده الآية الكريمة {وكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. (سورة الأنعام).

وفي كل الأحوال، أعتقد أن المواطن العربي يمر عبر نصف قرن مضى من الزمان، بأخطر عملية تغييب في تاريخه، انتزعته من هويته، وانتزعت منه هويته، فأصبح في عرف فقرات السيرك (بلياتشو) يحمل من علامات الترقيع الكثير، ليس في شكل وطيات ملابسه فقط، بل في لغته ومفرداته وحركاته وممارساته وثقافته وتعليمه، وهو ما انعكس بالتالي على أسرته وعلاقاته وأثاث منزله واهتمامات أبنائه، وهلمّ جرًّا، إلى أن ألقت هذه الأوضاع بظلالها على الشارع والعمل وفي وسائل المواصلات والأماكن العامة، وحتى العبادات، وكل شؤون الحياة تقريبا.

الحالة التي وصل إليها المواطن العربي حاليًّا، كانت نتاج جهود كبيرة، ونفقات أكبر، تمويل من الداخل والخارج، دورات هنا ومعسكرات هناك، برامج ودراما وروايات وأفلام ومسلسلات وفقرات وإعلانات، مقالات وحوارات وأخبار وتحقيقات، منابر الأوقاف وفتاوى مشايخ العصر، وأندية الروتاري، ومدارس بلا طلاب ومناهج هشة، وأسر ممزقة، ونسب طلاق هي العليا، وجرائم دخيلة على مجتمعاتنا، وغير ذلك كثير، كان من الطبيعي أن يسفر عن هذه الحالة التي نراها حاليًّا، حالة انعدام الهوية، فقدان القدوة، غياب الهدف، تشرذم غير مسبوق في التاريخ العربي.

أهمية صحوة الشعوب

بعض الناس في عالمنا العربي رأى أن سفور المرأة هو الطريق إلى التقدم، وبعض آخر رأى أن مهرجانات العري والاختلاط هي طريق التطور، وبعض ثالث رأى أن تنحية الدين جانبًا هي طريق الخلاص، في كل الأحوال أصبح التاريخ من الماضي، وكذلك التراث، والدين، والهوية، وفلسطين، نعم فلسطين، التي لم تعد تجد لها حيزًا في الدراسات الدينية والتاريخية بمناهج التعليم في عدد كبير من الدول العربية، لأسباب واضحة، ظهر أثرها جليًا على الشارع خلال الأزمة الحالية، على الرغم من الصحوة العالمية التي نشهدها في أنحاء المعمورة، لنصرة الحق الفلسطيني العادل، انطلاقًا من القوانين والمواثيق الدولية.

من هنا تأتي أهمية صحوة الشعوب، وإصرارها على إدارة دفة الحياة داخل أوطانها، أيًّا كانت التحديات الداخلية والإغراءات الخارجية، قبل أن تصبح على هامش التاريخ وهامش الأحداث، تنتظر العون والمدد من الخصوم والأعداء! في مشاهد دراماتيكية مخجلة، وكأننا لم نستوعب دروس التاريخ قط، ذلك أن الأمر المؤكد الآن هو ألا أمل في أي إصلاح إلا من خلال إرادة الشعوب، ذلك أن حسابات أولي الأمر، في الأنظمة المتردية، مختلفة تمامًا، ولا ترقى أبدًا إلى تطلعات الشعوب، والأسباب في ذلك كثيرة، وهو ما يرجح كفة الميزان تمامًا لصالح أصحاب الرؤية القائلة “كما تكونون يولّى عليكم”.

المصدر : الجزيرة مباشر