حاجتنا إلى القرآن الكريم

رمضان في غزة (غيتي)

 

رمضان شهر الانتصارات، وقد ارتبطت الفتوحات الكبرى بالشهر الكريم في تاريخ الأمة ونشأتها الحضارية، واعتمد قادتها وخلفاؤها وأمراؤها وقادة جيوشها على تأثير شهر الصيام بروحانياته على الجنود والمجاهدين، فارتبطت انطلاقاتهم التوسعية ودفاعاتهم وفتوحاتهم بشهر الصيام بل وإحيائهم للأمة بعد اليقين بالسقوط في فترات صعبة، مثل اجتياح التتار لبغداد عاصمة الخلافة وتوقف الأذان لمدة أربعين يوما، فيرفض أحد الأئمة توثيق الأحداث ظنا منه أن الإسلام انتهى وأنه لا قيام مرة أخرى له، حتى حرب السادس من أكتوبر المجيدة التي مثلت المواجهة الأخيرة بين العرب (مجتمعين) بشكل رسمي مع العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة كانت في العاشر من رمضان تحت شعار التكبير لعبور القناة وتحطيم خرافة الجيش الذي لا يُقهر بتحطيم خط بارليف الشهير.

ومع شهر الصيام وانتصارات بدر تمر قرابة الستة أشهر والفلسطينيون يحاربون على أرضهم في أطول حرب عرفها الطرفان في مواجهة أحدهما الآخر.

وبالرغم من الانتصارات التي يحققونها على الأرض في ظاهرة أجبرت العالم على تغيير التعاطي مع القضية والتوقف عن الاستماع للرواية الصهيونية لسماع الرواية الأخرى على الأقل من ناحية شعوب العالم والغربية منها خاصة.

وبالرغم من الاجتياح البري لغزة المناضلة، وبالرغم من استشهاد العشرات كل يوم معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين، فإن العدو يئن تحت وطأة ضربات المقاومة وحدها دون دعم المسلمين لهم.

فما زالت المقاومة تسطر البطولات وتثبت قدرتها على الصمود لفترات أطول مما مر بها وتدهش العالم بالثبات الأسطوري وطول النفس الغريب، ما زالت غزة تصمد، وما زال العدو يمعن في قتل الأبرياء ويستخدم كل الأساليب غير المشروعة والمحرمة دوليا، ويضرب بعرض الحائط كل القرارات الأممية من وقف لإطلاق النار وإدخال المساعدات مما يضفي على تلك المؤسسات العالمية صفة عدم النفع وانتهاء الصلاحية.

وما زالت الشعوب العربية صامتة دون غيرها من الشعوب الغاضبة لتتكالب -في ظل الصمت المريب- على غزة من كل صوب، فتصمت على الحصار الغاشم على كل مظاهر الحياة وكل ما يمكن أن يقيم أود المحاصرين من طعام أو شراب فيتضاعف عليهم الجوع، ويجتمع عليهم مع صيام الفريضة قلة ذات اليد وقلة الحيلة وغدر القريب وحصار الأخ والصديق.

وتمر الأيام تلو الأيام ليستطيعوا فقط كسر صيامهم بالماء وبعض عشبات الأرض بعد نفاد طعام الحيوانات من أنحاء غزة جميعها الذي اضطروا إلى إطعام أبنائهم به، يثور الغرب وينتفض، ويدخل الشرق والمسلمون في سبات عميق وكأنه ليس في الجوار مسلمون يجاهدون جوعى، فما الذي حدث وقد كانوا يوما أمة واحدة كالجسد الواحد يئن كله إذا اشتكى منه عضو أو وهن؟ وهل فقد شهر القرآن صلاحية فعله بالأمة؟ أم إنه علينا طرح السؤال بصيغة أخرى: لماذا فقد القرآن فعاليته بالأمة؟ وأين الخلل؟

التآمر الخارجي أم الخلل الداخلي؟

يتعلل الكثيرون في تبرير حالة الوهن والتشرذم التي تمر بها الأمة حد أن تحارب إحدى مدنها الأكثر ضيقا وفقرا وحصارا عن الأمة مجتمعة، فمُحيت عائلات بأكملها من السجلات وصار هناك ألوف من الأطفال بغير أهل وألوف مثلهم من الآباء بغير أبناء.

فيُرجع البعض الأمر إلى ضخامة حجم تآمر النظام العالمي لمحو القضية الفلسطينية التي هي في الحقيقة قضية كل المسلمين في بقاع الأرض وليس الفلسطينيين وحدهم، ونسي هؤلاء أن تاريخ الأمة في أربعة عشر قرنا لم يخلُ يوما من التآمر والصراع، وبالرغم من ذلك استطاعت أن تتخطى معظم تلك المؤامرات وتبني حضارتها العظمى ربما في واقع أشد ضراوة مما يمر بالأمة اليوم.

فالأمر لا يتعلق إذن بالمؤامرات بقدر ما يتعلق بالوهن الداخلي وحالة التشرذم الواقعة بين المسلمين، والتراجع المهين للحركة الإسلامية بعد إخفاقات عدة أثرت بشكل مباشر في بنيتها الوجودية نتيجة ضعفها داخليا وسوء إدارة وعدم فهم للعبة السياسية العالمية والتعلل بأسباب غير حقيقية أدت إلى تلك الصورة الشائهة من انقسام داخلي وتناحر على كراسي جماعات ومؤسسات وهياكل معظم أفرادها واقعون ما بين السجون أو الاغتراب.

فصارت الأمة بغير قيادة شعبية تعبّر عن وجهتها وهويتها وتعمل على تجميع شتاتها في عالم تهدده الصراعات الإقليمية والعالمية، وينذر بتشكل حرب عالمية تبدو أماراتها في الأفق، وتحتم على الجميع نبذ الخلافات الداخلية وصناعة تكتلات جديدة تُبنى على هوية أصيلة صالحة لإصلاح ما أفسده الاستعمار ووضعه لعراقيل التعاون الحقيقي من حدود وعداوات إن أردنا كأمة عربية ومسلمة أن نجد لنا مكانا بين ديناصورات الصراعات الحديثة

نحن أمة لا يصلحها إلا الدين

وقديما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”.

لقد كانت هذه الأمة يوما عبارة عن قبائل متناحرة في قلب الصحراء لا يعرفون الدولة ولم تجمع بينهم يوما إلا عصبية القبيلة، حتى أتى الإسلام ليغزوا به القلوب قبل البلاد، ويصنعوا به حضارة غير مسبوقة بجناحي المادة والروح ولم يفعلها غيرهم، وليخرجهم من عصبية القبيلة إلى حرية الإسلام وذكاء النفس والروح وصناعة المعالي والأمجاد.

ثم أتى فرض صيام رمضان في المدينة الوليدة والدولة التي تضع بنيانها في يثرب، لتخف الأمة وتجاهد لله صائمة فتفتح الآفاق شرقا وغربا غير آبيهن بالموت، يغيّرون ما بأنفسهم ليغيّرهم الله من أمة الرعي إلى أمة الفتح والبناء، ولا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، ولا يؤمن أحدهم حتي  يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وكلهم في الصف نفسه والناحية ذاتها ينصر أحدهم أخاه ظالما أو مظلوما، ظالما بكفه عن ظلمه، ومظلوما بنصرته بكل وسيلة، أمة فعل فيها القرآن فعله فصار الضعيف فيها قويا حتى يعود حقه، والقوي فيها ضعيفا حتى يؤخذ منه الحق، أمة يوصيهم نبيهم قائلا “المسلمُ أخو المسلم، لا يَظْلِمُه ولا يُسْلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه، ومَن فرَّجَ عن مسلمٍ كربةً فرَّجَ اللهُ عنه كربةً مِن كُرُبَاتِ يومِ القيامة، ومَن ستَرَ مسلمًا ستَرَه اللهُ يومَ القيامة”. ويقول عليه الصلاة والسلام منبها إلى خطورة التخلي عن أخوتهم “ما مِنْ امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حُرْمَتُه، ويُنتقص فيه مِنْ عِرْضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما مِن امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتقَص فيه مِن عِرْضِه، ويُنتهَك من حُرمَتِه إلا نصره الله في موطن يحب نصرته”. فكيف وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه اليوم؟ كيف تقف غزة في هذا الموضع وحدها فينصرها الله ونحمل نحن الخزي والهوان؟ إنه فعل غياب القرآن، واكتفائنا من رمضان بالجوع والعطش والاحتفالات والأناشيد والأضواء بينما غزة مظلمة لا  كهرباء ولا ماء ولا طعام، فقط تحارب وحدها.

لقد كادت الأمة تسقط في أكثر من مرة عبر تاريخها حين تخلت عن دينها في الحروب الصليبية والتتار غير الحروب الداخلية، لولا أنها في كل مرة تدرك سر قوتها عبر قائد يهب لنصرتها ولملمة شملها والعودة بها إلى رمضانات تحمل النصر تلو النصر وتحيي موات الأمة وتمحو آثار بعدها عن سر قوتها ولحمتها، إن غزة لم تصنع المعجزة في السابع من أكتوبر إلا ببركة القرآن الذي ختمته في كل مساجدها قبيل اليوم المشهود، ولم تستمر حتى اليوم في أسطورة سوف تروى للأجيال القادمة وتدرس في المدارس الحربية إلا بتفعيل القرآن فيها، والتعامل مع رمضان بما يجب أن يكون ليغيّر في الأمة اليوم كما غيّر فيها من قبل، وفي ذكرى غزوة بدر دعوة للعودة إلى مقاصد الدين وتلقي القرآن كما أُنزل علي الرعيل الأول من هذه الأمة كي تستقيم وتعود إلى جادة الطريق، لو ستعود يوما، سوف تعود.

المصدر : الجزيرة مباشر