رمضان المنقذ والمخلّص

رؤية الهلال (الأناضول)

 

كم نحن بحاجة إلى مُنقذ ومخلّص! كم نحن بحاجة إلى منقذ ينقذنا مما نحن فيه من الوهن والفتور، وتراخي الهمة، ومن التقصير فيما فرض الله علينا من الطاعات والقربات، وإلى مخلص ينتشلنا من وهدة المعاصي وجباب الذنوب، ما أحوجنا إلى هذا المنقذ المخلص! ما أشد لهفتنا عليه وشوقنا إليه! إن قطار الحياة يمضي بنا سريعًا، يطوي العمر طيًّا وينهب الأيام والأعوام نهبًا، ليجد المرء منا نفسه فجأة على أعتاب آخرته، فأين الزاد؟ أين ما ادخره كل امرئٍ منا لغده؟ أين العمل الصالح وأين التوبة النصوح؟ أين المنقذ من هذا الحال؟ والمخلص مما تفضي إليه من مآل؟ ها هو المنقذ المخلص قد حل بدارنا، ها هو الشهر المعظم “رمضان”، شهر الصيام والقيام، شهر العبادة والذكر والصدقات، شهر الباقيات الصالحات.

(محطات) على الطريق

هل لاحظت أنك في رمضان تكون أكثر نشاطًا في الطاعات؟ وأن نفسك التي كثيرًا ما تعتاص عليك في غير رمضان تسلس لك القياد في رمضان؟ هل سألت نفسك لماذا هذه الظاهرة ملازمة لهذا الشهر المعظم؟ إنها التهيئة الربانية، لقد هيأ الله رمضان ليكون (محطة) على الطريق، إليها تأوي وفي رحابها تستجم وتستريح، ومنها تتزود لمواصلة المسير، وجاءت التهيئة شرعية وكونية، فأما الشرعية فإنّ الله تعالى اختص هذا الشهر بشرف نزول القرآن فيه: {شَهْرُ ‌رَمَضانَ ‌الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ}، أي أنزل فيه جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم بدأ نزوله فيه، وفي هذا ما فيه من التهيئة الروحانية، وأما الكونية فإن رسول الله قد أخبرنا أنه (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، ‌وَصُفِّدَتِ ‌الشَّيَاطِينُ)، وهل تفتح أبواب الجنة إلا لينطلق منها البشر، وهل تغلق أبواب النار إلا لينزوي فيها الشؤم والشر؟ وهل تصفد الشياطين إلا ليصفو الأثير الروحاني العام؟ فإذا علمتَ أنها محطة مهيأة لك فانزل بها وتطهر وتزود، ثم انطلق راشدًا.

التقوى هي الثمرة

على هذا المقصد نصّتْ الآية نصًّا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌كُتِبَ ‌عَلَيْكُمُ ‌الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وإذن فالمحصلة التي يخرج بها المسلم من صيام الشهر وقيامه هي التقوى، هو هذه الطاقة الإيمانية والحاسّة القلبية الروحية التي بها يستقيم بها على منهج الله، ويستوي بها على الصراط المستقيم، فمن خرج خاوي الوفاض من هذه الثمرة فليراجع أداءه، لأن الصيام والقيام وما يحتفّ بهما من طاعات وقربات رمضانية تثمر -بطبيعتها- التقوى، وروافد التقوى الرمضانية غير منحصرة، فمنها رافد المراقبة، حيث يعتاد المسلم مراقبة الله في صيامه، لأنه سرّ بين الله وبين عبده، ومنها رافد الاستسلام والانقياد، لأن الصائم ينضبط في مضمار لا يخرج عنه ولا يحيد ولا يميد عنه، فيمسك عن بعض ما يحل له في الأصل من وقت محدد إلى وقت محدد تسليمًا لله تعالى وحده، كما أن الصيام يخفف من ثقلة الجسد، لتنطلق الروح محلقة في سماء الروحانيات، فتبلغ النفس ذروة العبودية، وهذه وغيرها روافد للتقوى، يستطيع المسلم الصائم القائم أن يمسك بها ويستصحبها في كل أحيانه.

مجمع العوائق

وإذا كنا نسلم بأن العوائق ابتلاء واقع، فإن مجمع العوائق التي تحول دون تحقق ثمرة الصيام هو (الرتابة) التي تقع باستحالة العبادة إلى عادة، وانكماش الجوهر وتمدد الشكل والمظهر، وانقلاب الشعائر بما فيها من روحانيات إلى طقوس تؤدى بلا روح ولا إحساس، فلا مناص إذن من استحضار معنى التسليم والاستسلام أثناء أداء فريضة الصيام، ولا بد من التخفف مما اعتاد الناس أن يثقلوا به كواهلهم في رمضان مما يخرج عن حدّ الاعتدال إلى السرف والسفه، وإذا كان الشرع يوسع علينا فيبيح لنا التوسعة على أنفسنا في ليالي رمضان، فإنه لا يصح أن تستفحل التوسعة إلى الحدّ الذي يفقد المرء معها معنى الصيام وحكمته؛ حيث ينقلب الأمر عنده إلى إمساك مؤقت عن اللذائذ لازدياد المتعة بها لاحقًا، فإذا أضفنا لذلك انشغال الخلق بما يفتح لهم في رمضان من ألوان الملاهي فكيف يمكن أن تتحقق الثمرة؟!

رمضان والطوفان

هذا هو أول رمضان يأتي بعد الطوفان؛ فهل سيشهد للمقاومة أم سيشهد على الأمة؟ أما المقاومة -ومعها حاضنتها- فقد أدت ما عليها، إذ قامت -بالنيابة عن الأمة الإسلامية- بواجب الدَّفْع، ضد المحتل المعتدي الغاصب، الذي ازداد شرُّه واستفحل خطرُه، وصدقت ربَّها فصدقها ربُّها؛ فها هي -على الرغم من الإبادة التي يمارسها الكيان ضدّ أهل غزة العزَّل- تحرز الانتصارات العسكرية والسياسية والإعلامية والحضارية والقيمية والأخلاقية، أما سائر الأمة فقد اتسعت دائرة الواجب لتشملها من أقصاها إلى أقصاها، فهل ستقوم بواجباتها التي فرضها عليها ربُّها، ليتم النصر وتكتمل المسيرة؟ أم ستظل تراوح موقع الشجب والإنكار، لتأخذ السنن مجرى آخر؟

غير أنّ الطوفان الذي يهيئ له رمضان هذا العام ليس “طوفان الأقصى”، وإنما هو الطوفان الذي لا يمثل “طوفان الأقصى” -على جلالة قدره- سوى عود الثقاب الذي يشعل الحريق الهائل، إنه الطوفان الذي يزمجر الآن في النفوس المقهورة والقلوب المكسورة، إنه البركان الذي يوشك أن ينطلق من محبسه وينفلت من عقاله، ليجتاح التلاع والبقاع، إنه ذلك المارد المقيد في قمقم النظام الشرق أوسطيّ، الذي يتمدد بازدياد كما يتمدد الظل كلما مالت الشمس للغروب، وإذا لم تسارع وتبادر الأنظمة إلى استيعاب الغضب ومحاصرة الخطر فلسوف يقتلع الطوفان كل ما بنت وشيدت، ولن يكون الاستيعاب إلا بمنح الشعوب حقوقها وحرياتها، ولن يزيدها هذا إلا رسوخًا وعزًّا لا يتاح لها مثله بالاستبداد والفساد.

وأخيرًا ندعو الله -تبارك وتعالى- لعباده المجاهدين في غزة وفلسطين وفي كل مكان بالنصر والفتح المبين، ولعباده المستضعفين بالفرج والخلاص، والحمد لله رب العالمين.

 

المصدر : الجزيرة مباشر