غزة تواجه “حضارة التجويع”

فلسطينيون في مخيم جباليا للاجئين ينظمون مظاهرة احتجاجًا على نقص الغذاء (الأناضول)

“تَبَرَّأْتُ مِنْ كُلِّ هذا العَجينِ

وهذا انتمائي..

أنا أنتمي للجُموعِ التي رَفَعَتْ قَهرَها هَرَمًا

وأقامَتْ مَلاعِبَ صورٍ وبُصرى

وأضاءَتْ بُروجَ السَّماءِ بِأبراجِ بابِلْ..

أنا أنتمي للجِياعِ ومَنْ سَيُقاتِل”..

                      مظفر النواب

واقع أهالي غزة

لم يكن الشاعر العربي الشهير مظفر النواب، يدرك عندما كتب قصيدته البديعة، “الدفتر السري شديد الخصوصيّة لإمامِ المُغَنِّين”، أنها ستعبّر بدقة عما يتعرض له الشعب الفلسطيني من حرب إبادة تستخدم سلاح التجويع في القرن الحادي والعشرين، وأن جل الفلسطينيين في غزة باتوا ينتمون، مثل أصحاب الرسالات والمناضلين العظام، للجياع والمقاومة، رغم محاولات العدو، لدق أسفين بينها وبين الشعب المثخن بالجراح.

سكّان قطاع غزّة جميعهم من دون استثناء، أي حوالي 2,2 مليون نسمة، يعانون من مستويات كارثية مُتفاوتة من انعدام الأمن الغذائي بحسب تقديرات “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” (IPC) للفترة الممتدّة بين ديسمبر 2023 ويناير 2024. هذه النسبة من الأشخاص الذين يعانون من انعدام تام في الأمن الغذائي وصولًا إلى اختبار الجوع، هي الأعلى على الإطلاق، ولم تُسجّل في أي منطقة في العالم منذ أن بدأ العمل في هذا التصنيف في العام 2004.

وفي زيارته الأخيرة إلى غزة، قال المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازارينى: “إن الناس في غزة يعانون الجوع الشديد لدرجة أنهم يوقفون شاحنات المساعدات، ويأخذون الطعام ويأكلونه على الفور.. هذا هو مدى يأسهم وجوعهم”.

وأضاف: “لقد شهدت هذا بنفسي. نلتقي بالمزيد والمزيد من الأشخاص الذين لم يأكلوا لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة أيام.. الوضع في غزة يتدهور بسرعة.. في كل مرة أعود فيها، أعتقد أن الأمر لا يمكن أن يصبح أسوأ، ولكن في كل مرة أرى المزيد من البؤس والحزن. غزة لم تعد صالحة للسكن كمكان بعد الآن”.

ويقول أب فلسطيني يدعى حمزة مصطفى أبو توهة، على منصة “إكس”: “حاولت جاهدًا قبل ولادة (علي) توفير علبة من حليب المواليد فلم أجد فقلت لعل المستشفى يوم الولادة توفر له علبة حليب، بعد ولادته أرادت أمه أن ترضعه فلم ينزل شيء من الحليب لسوء التغذية، ذهبت إلى كل مكان في المستشفى فلم أجد شيئًا، وبعد سبع ساعات تعطيني إحدى النساء حقنة فيها قليل من الحليب.. نحن في الشمال محاصرون”.

وتروي سيدة فلسطينية شهادتها: “لقد نفد الطعام رسميًا. ذهبنا إلى السوق لنبحث عن شيء نأكله ورجعنا بالخيار. نحن مرهقون وجائعون ونشعر بالبرد.. إذا لم يأت الموت من الغارات الجوية، فسوف يأتي من المجاعة”.

بينما تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي تغريدة معبرة نشرها مئات الفلسطينيين تقول “يا 100 مليون مصري يا أحب الناس إلى قلوبنا، نحن نموت من الجوع”.

هذه الشهادات والآلاف غيرها تضع نظام القانون الدولي الإنساني كله على المحك، فهدف المواثيق الدولية لحقوق الإنسان واتفاقيات حماية المدنيين في زمن الحرب وفكرتها هي التعلم من جرائم الماضي وعدم تكرارها، لكن في غزة التاريخ المظلم للتجويع للأسف يعيد نفسه.

وتجويع شعب في القرن الـ21 لتركيعه، ومشاهدة ذلك عبر “البث المباشر”، ليس “فيلمًا هوليوديًا”، بل جريمة صهيونية أمريكية، وهي مترافقة مع رفض مجلس الأمن الدولي اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار، ليكن الفلسطيني عبرة لبقية شعوب الأمة العربية وشعوب الجنوب التي قد تتحدى طغاة هذا العالم الإمبريالي.

وهؤلاء المستعمرون يبررون هذا المظهر من العنف بدواعي “الحرب على الإرهاب” التي تقتلع من تُصنّفهم إرهابيين من حيّز السياسة، وتُقصيهم من خانة من لهم حقوق.

وهكذا لم يخف اليمين المتطرف الصهيوني الحاكم، هدفه من حرب التجويع، عندما قال المتحدثون باسمه، بوضوح “سنواصل الضغط عليهم ونحرمهم من المأكولات والمياه والوقود والكهرباء.. حتى ينقلبوا على المقاومة أو يموتوا”.

ورئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، يقف على حافة الهاوية لا يستطيع التفكير، ويتأرجح من خطأ فادح إلى آخر، فها هي الحكومة اليمينية المتطرفة، تعلن عن إنشاء مستوطنات جديدة، وسط تهديدات بتقليص كبير لعدد الفلسطينيين المسموح لهم بالصلاة في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المقبل، لتجر المنطقة معها بل والعالم معها الى أتون حرب دينية، بامتياز.

بينما لم تتردد 18 دولة غربية، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وألمانيا وسويسرا واليابان، في تأييد اتهامات تل أبيب بوجود صلة بين موظفي (الأونروا) وبين حركة (حماس)، ليقرروا مشاركة الكيان الصهيوني في حرب التجويع من خلال تعليق مساعداتها لوكالة الغوث.

ولكن المعسكر المناهض للمقاومة ليس غربيًا فقط، وبدلًا من أن تمد الدول العربية يد العون لغزة، زودت 4 دول عربية هي، الإمارات والسعودية والأردن والبحرين، الكيان الصهيوني بما يحتاج له من سلع غذائية، عبر ممر بري، بعد أن نجحت جماعة “أنصار الله” في إغلاق البحر الأحمر أمام السفن المتجهة لإيلات.

وفي الوقت نفسه ما زال معبر رفح مغلقًا أمام المساعدات المكدسة، إزاء إصرار السلطات المصرية، أن تحصل بداية على موافقة تل أبيب، على إدخال الشاحنات، رغم أن نتنياهو أعلن بوضوح عن سعيه لتهجير شعب غزة إلى سيناء، ويضرب يوميًا عرض الحائط بالقوانين كلها بما فيها معاهدة السلام مع القاهرة.

تاريخ التجويع يعيد نفسه

هناك علاقة وثيقة بين الحروب وبين التجويع، فتاريخيًا كانت القوى المحتلة تنتهج أسلوب التدمير المتعمد لمصادر الغذاء للسكان الأصليين من أجل الإخضاع والسيطرة، ومن ضمن ذلك العمل على منع الإمدادات الغذائية، وتدمير المحاصيل، والاستيلاء على الماشية أو قتلها، ونقل السكان الأصليين قسرًا لمناطق ذات موارد غذائية محدودة، أو إجبارهم على العيش في معسكرات عمل مع حصص إعاشة غير كافية.

وفي الكثير من شهادات الناجين من التجويع خلال الحروب يكون “الخوف من الجوع” هو أكثر الصدمات النفسية انتشارًا، لدرجة أن بعض أبناء جيل الحرب العالمية الثانية حول العالم ما زال يخزن الطعام تحت مخدته، أو في مكان آمن في متناول اليد بسبب الخوف من المرور بتجربة الجوع مجددًا.

ولا عجب أيضًا أن آثار التجويع والموت البطيء الذي يلازمه تظل حاضرة في الأذهان أكثر من ذكريات سقوط المدافع والقصف الجوي بعد انتهاء الحرب بسنوات، والأدب، الذي هو أفضل مؤرخ للتجربة الإنسانية، يوضح هذا، فمثلًا رواية “حصار لينينجراد” للكاتب الروسي ألكسندر سولجينتسين تروى التجارب المروعة للمدنيين خلال حصار ألمانيا لينينجراد أثناء الحرب العالمية الثانية.

ويعد جان زيغلير وهو فيلسوف ومسؤول سياسي ونائب سويسري، وهو الآن نائب رئيس اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أن “الجوع هو أكبر فضيحة في عصرنا، الجوع هو أحد أسلحة الدمار الشامل الكبرى التي لا يتحدث عنها أحد”، مشيرًا إلى أن البعض يراهن على ضمائر حكام العالم.

لكن قادة العالم حاليًا، كما يقول، هم رؤساء الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات، وهم أشخاص لا هم لهم إلا تراكم الأرباح والرساميل في جيوبهم.

ويضيف الفيلسوف السويسري الشهير قائلًا: ينبغي أن يعلم الجميع الحقيقة التالية: “هناك حوالي الـ5 مليارات شخص يعيشون هناك في الجنوب. من بينهم يعيش مئات الملايين تحت خط الفقر المدقع. إنهم يعيشون في ظروف مرعبة لا تليق حتى بالبهائم. الأمهات خائفات يوميًا من عدم القدرة على طبخ أي شيء لأطفالهن”.

ويقول البروفيسور، “أين هي الفلسفة الأخلاقية؟ أين هي القيم الروحية والمثالية العليا؟ كيف يمكن لحضارة كهذه أن تستمر؟ وأصلًا هل من المعقول والمقبول أن تُدعى حضارة؟ لا حضارة دون نزعة إنسانية تضامنية تحترم آلام الشعوب وترفض تجويعها حتى الموت”!

المقاومة خيار الشعب

وبينما الأنظمة الغربية تلقت سمعتها ضربات قاصمة، كما تقول جريدة “الجارديان” البريطانية، “من غير المرجح أن تتعافى سمعة الغرب كبطل للقيم العالمية ومؤيد لنظام قائم على القواعد في أي وقت قريب من الأحداث الدموية في غزة”، تقدم المقاومة الفلسطينية، رغم حصارها، نموذجًا مختلفًا، ولعل ذلك ضمن أسباب أخرى ما يفسر عدم انقلاب الشعب الغزاوي عليها رغم كل ما يتعرض له يوميًا من مذابح منذ 5 أشهر تقريبًا.

فالقوى الوطنية الفلسطينية تاريخيًا تتمسك بأرضها وترفض الرحيل عن غزة، ليس من اليوم، ولكن منذ مشروع التهجير الأول إلى سيناء، عام 1955، التي وافقت عليها مصر عبد الناصر حينذاك، كما يقول المؤرخ الفلسطيني عبد القادر ياسين، ويتابع “المقاومة صامدة وتقاتل رغم الاختلال الكبير في موازين القوى، مشددًا على أهمية أن تحافظ المقاومة على الحاضنة الاجتماعية العريضة لها في غزة”.

ويزيد من الالتفاف الشعبي حول المقاومة، أن الشعب الفلسطيني لا تفارقه صور الشهداء، فلا توجد عائلة ليس لديها من استشهد، وبالتالي يولد كل يوم مشروع مقاوم.

وتنقل قناة “الجزيرة” عن الطفلة الفلسطينية سمية وشاح ذات 11 عامًا قولها “قررت أن أعمل مراسلة تنقل الأحداث في قطاع غزة، رغم القتل اليومي للصحفيين، لأن قدوتي هي الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وعندما سألها مذيع قناة الجزيرة: ألست خائفة؟ ردت: “لا مش خايفة.. ولما بطلع بتوكل على الله، وأنا مصرة أكمل مشوار شيرين”.

كما أن مخطط الصهاينة وأعوانها لإحداث انقسام فلسطيني–فلسطيني باستخدام سلاح التجويع يعيه الكثير من الفلسطينيين، ويحذرون منه، وليس القوى السياسية فقط.

وفي هذا السياق كتب “أحمد أيوب” وهو محام فلسطيني على منصة “إكس” منشورًا دالًا يقول فيه “فقدت عائلتي كلها، ونعيش وجعًا للفراق لا يعلمه إلا الله، ولا نستعرض تضحياتنا في الدنيا، ولكنني أقول ذلك لأذكركم إخواني إن الاحتلال هو سبب كل فساد وإفساد في أرضنا، وبالتالي وجب علينا مقاومته واجتثاثه بكل السبل، لا أن نكافئه بإلقاء اللوم على المقاومة”.

ويتابع “أسألكم الله ألا تخذلوا الشهداء وذويهم وألا تشمتوا الأعداء بنا.. نقبل رؤوس المقاومة”.

وبموازاة صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري، وبعيدًا عن الخذلان العربي الرسمي، تتواصل حملات التضامن وسط العمال والطلبة والشباب، بل واليهود في قلب العالم الغربي، إلى جانب ضربات المقاومة الموجعة في غزة وفي البحر الأحمر وشمال فلسطين المحتلة، وهو ما دفع قادة العالم الاستعماري لممارسة قدر من الضغوط على تل أبيب لحلحلة التفاوض من أجل الوصول إلى هدنة.

ومؤخرًا دخل الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا في معركة شرسة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا، عندما أدان ما يتعرض لها الفلسطينيون واصفًا إياه بـ”الإبادة الجماعية”، وشبّه نتنياهو بالزعيم النازي “هتلر”، وتساءل دي سيلفا بحق “كيف نحيا في عالم يعجز عن توفير كوب لبن لأطفال غزة ونسائها؟”.

وتواصل جنوب إفريقيا محاصرتها لإسرائيل ووضعها في الزاوية، وطالب سفير جنوب إفريقيا لدى هولندا، فوسيموزى مادونسيلا، الدول جميعها للإدلاء بشهادتها في القضية التي رفعتها بلاده أمام محكمة العدل الدولية من أجل معاقبة إسرائيل على جريمة “الإبادة الجماعية”.

وقال “مادونسيلا”، في تصريحات صحفية: “نرى أن ما ترتكبه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة أسوأ نسخة مما عشناه في ظل نظام الفصل العنصري، وبناء على ذلك اعتبرت جنوب إفريقيا أن رفع الدعوى القضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية واجب على عاتقها تجاه شعبها والمجتمع الدولي لضمان محاسبة إسرائيل على أفعالها”.

وفي أمريكا نفسها تتصاعد المقاومة، وحققت الحملة التي أطلقها طلاب جامعة كاليفورنيا المتضامنين مع فلسطين إنجازًا لا يستهان به بعد إقرار مشروع قانون يقضى بسحب استثمارات الجامعة من إسرائيل، ويمنع إنفاق ميزانيتها البالغة 20 مليون دولار على الشركات المتواطئة مع الاحتلال والإبادة الجماعية.

ويستمر اعتصام نشطاء، معظمهم من النساء، نصبوا الخيام أمام منزل وزير الخارجية الأمريكية، منذ شهور، كما يواصل العرب الأمريكيون الضغط على جو بايدن في عام الانتخابات الرئاسية، لكي يمارس ضغوطًا على إسرائيل لوقف إطلاق النار.

باختصار الشعب الفلسطيني ليس بمفرده، بل كسب إلى جواره أحرار العالم، والمعسكرات تتبلور بين حلف استعماري وحلف مقاوم، والمؤكد أن معركة غزة تغيّر العالم، وتبرهن مجددًا، أنه ليس بالخبز وحده تحيا الشعوب التي تقاوم الاستعمار والاستبداد.

 

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر