بائع الفاكهة (الجدع).. والنظام العربي (الخَرِع)

عم ربيع بائع الفاكهة (منصات التواصل)

 

ربيع أبو حسن، دخل قلب وعقل كل مصري دون استئذان، وتجاوزت سيرته حدود بلاده، بتصرف عفوي بسيط شكلا، لكنه عميق جوهرا ومعنى، إذ قام بإلقاء الفاكهة التي يبيعها على رصيف أحد الشوارع فوق شاحنات محملة بمساعدات لغزة دعما للأهل هناك.

الشعور العربي القومي وروابط الدين والعقيدة والجوار واللغة والإنسانية والمصير المشترك والمأساة الكبرى لغزة دفعت ربيع بشكل لا إرادي لنثر البرتقال فوق العربات وهي تمر بجوار (فرشة) الفاكهة الخاصة به.

هو بائع على باب الله، يعمل لكسب رزق اليوم باليوم، وكل تجارته عبارة عن دعاء (يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم) عندما يستيقظ صباحا لشراء أقفاص الفاكهة والخضروات ثم يقف ليبيعها لإعالة أسرته.

البائع المهموم بغزة

لم يفكر ربيع للحظة في ثمن البرتقال الذي يلقيه فوق شاحنات المساعدات، فهو مهموم بغزة وأهلها الذين يواجهون الأهوال، فالموت يحاصرهم ويترصد لهم في كل بيت وشارع وحارة وحي ومدينة ومخيم، موت غير رحيم، موت ليس طبيعيا، إنما موت نازي فاشي إرهابي عنصري، موت على أيدي المحتل الصهيوني أكثر أهل الأرض إجراما، وشريكه الأمريكي الذي يخون كل قيم حقوق الإنسان والعدالة والإنصاف، ومعهم الأوروبي الذي أيد المجزرة منذ يومها الأول، وقريب من هؤلاء الأشرار، يقف العرب والمسلمون جميعا في حالة من الانحطاط الذي لم يسبق له مثيل، إذ هم عاجزون عن إنقاذ طفل واحد أو امرأة واحدة أو عجوز واحد أو مدني واحد من القتل والفتك والسحق اليومي على أيدي وغد يبيد غزة بما فيها ومن فيها.

وتصطف مع شركاء جريمة القرن الحادي والعشرين الدول الساكتة والصامتة والفاقدة للإنسانية التي لا تعبأ بما يجري في تلك البقعة المنكوبة التي تتم تسويتها بالأرض وتجري فيها دماء الشهداء أنهارا، كم أنت حقير أيها العالم، وكم نحن لا نستحق الحياة أمام فشلنا في عون المظلوم!

رجولة ربيع

ربيع البائع الفقير الذي لا يمتلك من حطام الدنيا شيئا، حتى المكان الذي يبيع فيه هو شارع عام، ويتعرض لمطاردة البلدية حتى لا يمكث فيه، هو أكثر رجولة وشهامة وجدعنة وحمية وضميرا وأخلاقا وإنسانية من أنظمة هذا العالم المساند والمتواطئ والمتخاذل والجبان الذي يتابع المذبحة ويشجع القاتل على مواصلتها.

وإذا بلغ القتل والهدم والدمار مبلغا عظيما ومُحرجا لدعاة الحرية والديمقراطية والحقوق ولرافعي شعارات العروبة والقومية ولأخوة العقيدة وشركاء التاريخ والجغرافيا فإنهم يدعون المجرم أن يخفف من أعداد ضحاياه ويتجنب قتل الأطفال والنساء، لكنهم لا يقفون في وجهه ويمنعونه من ذبح الناس الأبرياء ولا يُصدرون قرارا حاسما بوقف إطلاق النار.

ما فعله ربيع هو ما كان يجب أن يفعله العرب كلهم منذ الساعة الأولى من الإبادة، أن يهبّوا على قلب رجل واحد لنجدة الشقيق الفلسطيني، وأن يستثمروا كل ما لديهم من أوراق ضغط -وهي كثيرة- ضد المجزرة ومنع اتساعها بالعمل الجاد والتحرك بفاعلية والوقوف صفا واحدا ضد اتساعها، وهم يعلمون أن العدو يستثمر 7 أكتوبر/تشرين الأول لشطب غزة ومن فيها من الوجود، وهو ما يحدث بالفعل طوال أيام العدوان الشنيع.

ويبدو أن العرب ليسوا في حالة ضعف وهوان فقط، بل هم ضد المقاومة ومع المهادنة واستعذاب التبعية والتطبيع المهين والسير في ركاب الصهيوأمريكي ضمانا لاستمرار ووجود النظام الرسمي العربي (الخَرِع)، فكلهم متشبثون بكراسيهم ويعتقدون أن بقاءهم فيها مضمون برضا أمريكا ودعم الصهيوني، ولو فكروا قليلا لوجدوا أن التحصن بشعوبهم هو مصدر قوتهم، فالشعوب هي الحائط الوحيد الحامي لهم، وكل ما عليهم أن يصيروا جزءا من الشعوب وليسوا حربة عليها وأن يحصلوا على شرعيتهم من مواطنيهم وليس من أعدائهم.

تضامن شعبي هائل مع غزة

سلوك ربيع فعل رمزي يعكس مكنون الشعب المصري كله تجاه غزة وأهلها وتجاه فلسطين وشعبها، وهذا حقيقي وواقعي تماما، وظهر بشكل أكثر وضوحا مع الهجمة البربرية الحالية على غزة.

كل الشعب المصري دون استثناء متعاطف ومتضامن مع غزة، ويتمزق من أجل غزة، ويتمنى أن يدعم غزة بكل السبل العملية لو يُتاح له ذلك، لم أصادف أحدا غير متعاطف، بل أندهش من حجم الغضب الهائل الذي في الصدور من أجل غزة وشعبها، وهناك من يستعيدون ذكريات الماضي خلال حروب مصر مع الصهاينة عندما كان الناس مستعدين للفتك بالعدو ويتمنون المواجهة معه لتلقينه دروسا في الشجاعة والرفض لاحتلاله وعنصريته وفظاعاته، وتأكيد أنه لا مستقبل له في منطقتنا مع كل هذا الإجرام.

الموقف الشعبي المصري المساند بقوة لغزة غير مسبوق حتى في شؤون داخلية، والانتقادات علنية وصارخة للأنظمة وتخاذلها وعدم القيام بواجباتها تجاه غزة وأهلها بشكل جاد وعاجل.

وهذا ليس موقف المصريين فقط، إنما موقف كل الشعوب العربية والإسلامية دون استثناء، لكن الشعوب مُبتلاة بأنظمة تجبن عن اتخاذ مواقف لائقة لمساعدة غزة كما يفعل الأمريكي والأوروبي الذي يدعم الصهيوني علنا وبصفاقة وبكل ما أوتي من قوة، ولولا ذلك ما كان هذا الصهيوني قد استطاع مواصلة العدوان ولا استقر في مكانه في الأرض المغتصبة من فلسطين المحتلة.

المتصهينون ودرس ربيع

(الجدعنة ما لهاش دكان) مثل شعبي سمعته في إعلان يدعو المصريين إلى التبرع لمبادرة (حياة كريمة)، وهي مبادرة تَغلب عليها الدعائية، وهذا المثل الذي كنت أتبرم منه بسبب إلحاح الإعلان يُثبت اليوم واقعيته وحكمته وفلسفته مع ربيع أبو حسن، المصري الأصيل الجدع، ومثله 110 ملايين مصري يعُدون أنفسهم غزيون، ومثلهم كل العرب والمسلمين، وكل أصحاب الضمائر في هذا العالم، فالجدعنة لا تُباع ولا تُشترى، إنما هي صفة وقيمة ومعنى إنساني نبيل راقٍ لدى أصحاب الضمائر الحية فقط.

فهل يستوعب النفر المحدود من المتصهينين المنبوذين الدرس البليغ من المواطن البسيط ربيع؟!

المصدر : الجزيرة مباشر