عبد المجيد الزنداني.. رحيل عالم خدم الإيمان بالعلم

الشيخ عبدالمجيد الزنداني (منصات التواصل)

انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم الإسلامي الكبير الشيخ عبد المجيد الزنداني، ابن اليمن من حيث النشأة والحياة، وابن الأمة الإسلامية من حيث الهم والعمل، والتحرك في ميادين العمل لها.

فالرجل كان شعلة نشاط متوقدة في عدة مجالات، ولو نهض بمجال واحد لكفاه، ولظل ذكره بين الناس به حيا وميتا، فالرجل جمع بين العلم والعطاء الدعوي، والنضال في بلده والعالم الإسلامي، وما دُعي إلى أداء واجب نحو أمته إلا كان مسارعا في الإجابة والسعي، ونكتفي بجانبين مهمين فقط من حياة الرجل، وهما جانب عرضه الإيمان بالله بأسلوب علمي معاصر، وجانب خدمته القرآن من باب الإعجاز العلمي.

الإيمان بالله بأسلوب عصري

اتسمت كتب العقيدة في المعاهد والجامعات الإسلامية في منتصف القرن العشرين، بأنها كانت تكتب بلغة لا تناسب قضايا العصر، ولا طريقة الإقناع التي تخاطب الشباب، وتزيد من اقتناعاتهم الدينية، وذلك ليس لتقصير فيما كتبه هؤلاء العلماء القدامى، فقد كتبوها بلغة تناسب زمانهم، لكن المشكلة في جلب كتابات تعالج قضايا زمنية، لتدرّس لطلبة علم في زمان آخر لديه تحديات أخرى مختلفة تماما عن تحديات من سبقوهم.

وقد أعلن أكثر من مرة الشيخ الغزالي وعلماء آخرين أنهم ودّوا لو أن كتاب “الله يتجلى في عصر العلم”، وكتاب “العلم يدعو إلى الإيمان” -وكلاهما لعلماء أجانب، كتبوه بحكم تخصصهم في العلوم التجريبية والإنسانية، وكل شخص منهم كتب كيف توصل إلى وجود الله تعالى والإيمان به، عن طريق تخصصه العلمي- قد وُضعت بين فقراتهما الآيات القرآنية والأحاديث التي تؤكدها وتعضدها، وهي متناغمة ومتناسقة تماما مع هذه النظرات العلمية.

وهذا ما فعله الزنداني في أكثر من كتاب عن توحيد الخالق، والإيمان بالله تعالى، وقررت بعض هذه الكتب في المملكة العربية السعودية، وفي بلدان عربية أخرى، فكان نعم العون للشباب في هذه المرحلة، التي تكثر فيها الأسئلة عن وجود الله، ودلائل وجوده العقلية والعلمية، فكانت هذه الكتب مكتوبة بلغة سلسلة، وبأسلوب ميسّر، ولغة إقناعية جذابة، دون الدخول في الخلافات العقدية التي في كتب التراث، التي ناسبت مرحلة سابقة، ولم تعد تناسب كل طلبة العلم في الأجيال الحالية.

ولم يقف الزنداني عند تأليف بعض الكتب، فذهب ليؤسس جامعة سماها جامعة الإيمان، وجلب لها كبار العلماء ممن ضاقت بهم بلدانهم، وممن قبل دعوته للوفود إلى الجامعة لينهل طلبة العلم من كثير من بلدان العالم الإسلامي من علمهم، ولم يقف في نشاط جامعته على الدرس العلمي، فقد كان بجانب العلم يعنى بالتربية، ورعاية الطلاب أخلاقيا مع الرعاية العلمية.

الإعجاز العلمي للقرآن الكريم

كما اشتهر الشيخ الزنداني باهتمامه البالغ اطّلاعًا وعطاءً بموضوع الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وهي قضية ثار حولها النقاش كثيرا في القرن العشرين، فقد كانت قضية إعجاز القرآن قبل هذا القرن تتحدث عن إعجازه اللغوي، وقد نزل عربيا بين عرب بلغة عربية، فكان إعجازه اللغوي مجالا وميدانا يعترف به المحب والكاره للإسلام، وكذلك إعجازه التشريعي، ولكن جد في هذا القرن الحديث مجال آخر، وهو إعجاز يتعلق بالعلم وموضوعاته الكونية والتجريبية وغيرها.

ومع انتشار الحديث عنه، تنوع المتحدثون فيه، بين من أسرف حتى وصل إلى الشطط، ولذلك نماذج معروفة ليس هنا مجال الحديث عنهم، وبين رافض لهذا التوجه، نافيا تماما أن يكون في القرآن إعجاز علمي، بل هو كتاب تشريع وتربية، وإعجاز في اللغة والفصاحة، وإن تعرض لآيات كونية، فيمكن أن نسمي ذلك: التفسير العلمي للقرآن، وليس الإعجاز العلمي للقرآن، وقال بذلك علماء قدامى ومعاصرون.

وبين قائل بالإعجاز لكن في إطار علمي دقيق، فهو لا يعرض القرآن الكريم على النظريات الجدلية، أو الفرضيات المختلفة، بل يفسر القرآن بما يتعلق بالعلم المستقر، وقد بدأ هذا التوجه قديما على يد عالم مصري ومفكر كبير هو محمد أحمد الغمراوي وخاصة في كتابه “الإسلام في عصر العلم”. ومن المعاصرين من هذا التوجه المعتدل الشيخ عبد المجيد الزنداني رحمه الله، فلم يكن يلوي أعناق النصوص، بل تحرك بالموضوع من باب العلم، لا من باب الشطحات، أو التكلف.

وقد كانت وجهة نظره وأمثاله في هذه المسألة أن خصوم الإسلام في زمانه يفتنون الشباب المسلم، بصرفه عن دينه، بمذاهب فلسفية، مثل: الشيوعية، والاشتراكية، ونظرية التطور، وغير ذلك، بدعوى أن الإسلام ضد العلم، وأن الدين والعلم ضدان لا يلتقيان، فكان مدخله لذلك أن يبين أن الإسلام دين لا يصادم العلم، ودليل ذلك ما اشتمل عليه من احترام الثوابت والحقائق العلمية، وبناء منهج علمي رصين في التعامل مع الكون والحياة والإنسان.

وبلغ من تضلع الزنداني في الأمر، واحترامه التخصص، أنه كان يجري لقاءات مع مختصين، وقد سمعت محاضرات له على أشرطة كاسيت في ثمانينيات القرن العشرين، كانت بينه والدكتور فاروق الباز، يسأله الزنداني عن الفلك والنجوم، ويشرح الباز شرحا علميا مجردا، ثم يعقب عليه الزنداني بما ورد في ذلك من نصوص قرآنية ونبوية، وما يتضح من نصوص صريحة، لا تأويل فيها، ولا ليّ لأعناقها. وكان ردّ الباز عجيبا، فقد كان يعقب بأنه لم يكن يعلم هذه النصوص، وهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار بما ذكره من علم، وهكذا كان الزنداني يعتمد في ذلك على العلم الراسخ، لا الشطحات، ولا التخبط.

 

المصدر : الجزيرة مباشر