محددات الموقف العراقي وسط النزاع الأمريكي الإيراني

رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني (الفرنسية)

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية الإبقاء على طبيعة علاقاتها مع العراق، من خلال مخرجات واقع الاحتلال بعد واحد وعشرين عاما.

وقد لا يكون الأمر مستغربا في قراءة طبيعة العلاقات الناشئة على أنقاض الاحتلالات الشاملة، ورغبة البلدان الغازية في تشكيل البنية السياسية للبلدان المحتلة بعد مغادرتها، وربطها باتفاقيات أمنية وشراكات استراتيجية مختلفة المديات. يحاول العراق أن يتغلب على هذه المعادلة الصعبة، ضمن دائرة تصور واشنطن لطبيعة علاقتها ببغداد.

كلا الطرفين ينظر الى مستقبل علاقته بالآخر من خلال الاتفاقية الأمنية لعام 2008 أو ما سُميت لاحقا اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين، التي غادرت بموجبها الولايات المتحدة الأمريكية عام 2011، وأبقت العراق تحت تأثير بنود هذه الاتفاقية التي تأخذ وصف المعاهدات غير المتكافئة، كمنتج طبيعي لفارق القوة بين طرفي الاتفاقية المتعددة الأغراض والمجالات (سياسيا واقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا)، والتي تبدو من مجمل فقراتها أنها وُضعت لكي تستوعب المتغيرات الدولية والإقليمية المحتملة، ومقتضيات حاجة التغيير، سواء بالإضافة أو التعديل، استجابة لمصالح الولايات المتحدة لإدارة سياساتها الخارجية في الشرق الأوسط، بل في العالم بما يمنحها نفوذها في العراق. في المقابل يحاول العراق المناورة داخل بنود هذه الاتفاقية الاستراتيجية لمحاولة الحصول على عناصر قوة تمكنه من إدارة سياسته الداخلية إضافة إلى سياسته الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ماذا بعد زيارة رئيس وزراء العراق لواشنطن؟

تبدو الولايات المتحدة الأمريكية أكثر حاجة اليوم إلى ضبط إيقاع علاقتها مع العراق استجابة لطبيعة الأحداث التي تدور في المنطقة العربية والعالم، ضمن زاوية نظر استراتيجية عالية، لأنها تدرك أن العراق يشكل اليوم عقدة الاتصال البري والجوي بين إيران وإمكانية وصولها إلى نقطة التصادم مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ضمن دائرة الحدث المتفجر في غزة. وقد تأكدت الولايات المتحدة من صحة اختبار الموقف الإيراني من الدخول مباشرة في دائرة المواجهة المسلحة ومن أراضيه مباشرة بإطلاق مئات المسيّرات والصواريخ، خارج دائرة ما كان يُسمى الحرب بالوكالة من خارج أراضيها، ضمن تصور حقيقي لوجود مشروع إيراني وسط تزاحم المشروعات الجيوستراتيجية للقوى الدولية الكبرى، وتصادمها في المنطقة العربية والشرق الأوسط وعلى حدود إيران.

هنا يأتي هاجس القلق الأمريكي من اختبار الحالة العراقية واستجابتها للأحداث والمواجهات التي أصبحت فعلية وعلى أرض الواقع بين إيران وإسرائيل وبالنتيجة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

كل ذلك ضمن مجموعة من التساؤلات تُطرح حول موقف العراق من التزاماته تجاه الولايات المتحدة الأمريكية الداعمة للجرائم الإسرائيلية في غزة، وكيف تنظر الولايات المتحدة إلى مستقبل الموقف الإيراني وحالة الصدام مع إسرائيل؟ وما هي مساحة متخذ القرار العراقي في تأييد أو رفض الموقف الإيراني باستخدام الأجواء أو الأراضي العراقية، في ظل استنفار شعبي عراقي لا يساوم على القضية الفلسطينية والدفاع عنها تحت أي ظرف من الظروف؟

صعوبة اختبار الموقف العراقي في ترجيح موقفه بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية يأتي من خلال بنود الاتفاقية الأمنية أو ما تسمى اليوم اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين أمريكا والعراق، التي تشير في بعض بنودها إلى “التزام الجانب الأمريكي بتعزيز الأمن والاستقرار في العراق، والإسهام في إرساء السلام والاستقرار الدوليين، وتعزيز القدرات السياسية والعسكرية التي تُمكّن العراق من ردع الأخطار، ومنح الحكومة العراقية صلاحية الطلب للتدخل العسكري الأمريكي عند نشوء أي خطر خارجي أو داخلي ضد العراق أو وقوع عدوان ما عليه، وعدم جواز استخدام أراضي العراق ومياهه وأجوائه ممرا أو منطلقا لشن هجمات ضد بلدان أخرى”.. وهنا يأتي السؤال!!

مساحة التأثير الأمريكي على متخذ القرار العراقي

كما تمّت الإشارة إليه في بنود الاتفاقية الأمنية العراقية، تبرز مكامن خطورة الأمر إذا ما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية توظيف بنود استخدام أراضي العراق وأجوائه من قبل إيران، على فرض توقع الضغط الأمريكي (السياسي والاقتصادي والأمني) على العراق، من أجل دفع حكومة بغداد إلى طلب التدخل الأمريكي ضمن البنود المشار إليها، مما يخلق الحجة القانونية لاستخدام الأراضي العراقية منطلقا للعمليات العسكرية الأمريكية بمواجهة إيران وغيرها من خصوم الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يمثل موقع العراق بالنسبة لها أفضل مجال جغرافي للتحرك في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى ما يمثله العراق من عمق استراتيجي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية توظيفه ضد منافسَيها الصيني والروسي للوصول إلى الخليج العربي.

اختبار لا يبدو سهلا أبدا، وسيتحمل العراق ثقل اتخاذ قرارات بهذا الحجم من التأثير الدولي في عالم فاقد للقيم الإنسانية وفق حالة الهيمنة الهمجية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وما قد يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار العراق داخليا وإقليميا ودوليا.

لكن في المقابل، فقد طرح رئيس وزراء العراق خلال جلسته مع بايدن تصورا اعتُبر الأكثر وضوحا، ويحمل رسالة واضحة بأن العراق يستنكر المواقف الداعمة للجرائم الإسرائيلية في غزة، إضافة إلى عدم شرعية الهجمات ضد المؤسسات الدبلوماسية للدول، في إشارة إلى القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قادة إيرانيين فيها، مما يعطي تصورا بأن هناك مساحة مناورة من العراق ضد الموقف الأمريكي فيما يخص الموقف من إيران، مع التأكيد المباشر من رئيس الوزراء العراقي أن اللقاء بالرئيس بايدن بحث في ظروف المنطقة، وما تشهده من تصعيد، والدور المشترك في العمل على التهدئة، ومنع الصراع من الاتساع بما يؤثر في مجمل الاستقرار بالعالم، كما أشار إلى عمل اللجنة العسكرية العليا بين العراق والتحالف الدولي، الهادفة للوصول إلى جدول زمني لإنهاء مهمة التحالف، والانتقال إلى علاقات ثنائية مع الدول المشاركة فيه.

هنا يأتي السؤال عن إمكانية تفكيك وتركيب طبيعة العلاقة المزدوجة بين جهتي الضغط على القرار العراقي، المتمثل في الموقف الاستراتيجي الأمريكي من العراق، يقابله الموقف الإيراني الاستراتيجي أيضا، خصوصا أن إيران تمتلك الأرض والجوار العراقي، وتمتلك أيضا التأثير السياسي والميداني عبر الأحزاب الحاكمة أو التأثير من خلال بعض الفصائل المسلحة التي ترتبط بإيران ولها امتدادها عبر الأراضي العراقية إلى الأراضي السورية.

مساحة المناورة العراقية.. ما هو ممكن

لا نعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية تهمها المصالح العراقية، بقدر ما تستفيد منها لأجل مصالحها التي انتَهكت لأجلها الشرعية الدولية في مناسبات دولية عديدة، كما حصل في العراق وحصل قبلها في فلسطين، وما زال يحصل من خلال التدخل المباشر في الحرب على غزة، والدعم السياسي والدولي للعدوان الإسرائيلي.

وتتجلى أهمية المصالح الأمريكية في العراق من خلال مجمل لقاءات الوفد العراقي على مستوى الخارجية والدفاع والخزانة الأمريكية، فضلا عن مستشار الأمن القومي، وغرفة التجارة الأمريكية وكبار المسؤولين في الشركات النفطية والصناعية.

ذلك يشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية خاضعة اليوم للمساومة لتثبيت مكتسباتها ومصالحها داخل العراق، ومِن ثَم ستكون أكثر حذرا في التعامل مع الملف الإيراني لمحاولة احتوائه، وكان ذلك واضحا من خلال الموقف الأمريكي المتقلب في اتخاذ أي قرار يتسم بالمواجهة الحقيقية مع إيران خارج موضوع التهديدات التي لا تخرج عن دائرة اختبار المواقف وردود الفعل. لذلك وضمن هذا التصور سيُمنَح متخذ القرار العراقي مساحة أكبر في التعامل مع إيران في المرحلة المقبلة على الأقل، وهو ما يمنح الجانب الإيراني مساحة اختبار الموقف تجاه التحديات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية من الشريكين الاستراتيجيين لإيران (الصين وروسيا ) ذلك الأمر الذي تدركه أمريكا جيدا. ولا نستبعد -وفق مفهوم تغليب المصالح الدولية وتقلبات السياسات الخارجية للدول- أن يشهد الموقف الأمريكي حالة استدراك لمجمل أخطاء الاندفاع العدواني الذي توشحت به السياسة الخارجية الأمريكية، الأمر الذي ترك حالة الاشمئزاز الدولي من السلوك الأمريكي في مواجهة قضايا حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.

المصدر : الجزيرة مباشر